في سبيل إحقاق العدالة الانجابية في لبنان
في سبيل إحقاق العدالة الانجابية في لبنان
رلى ياسمين، بتول سكر
عبر كحل: مجلّة لأبحاث الجسد والجندر
مجلّد 4، عدد 2، شتاء 2018
موضوع العدد: مركزة العدالة الإنجابيّة
[انقر لتنزيل المقال بصيغة pdf]
تُستخدم غالبًا العدالة الإنجابية والحقوق الإنجابية والصحّة الإنجابية للتعبير عن المقصد ذاته. وفي حين أنّ هذه المفاهيم لا تتناقض عمداً مع بعضها البعض، فهي تختلف من ناحية التزاماتها ومقارباتها والإجراءات التي تعتمدها. والأهمّ من ذلك أنّ السياقات التي أنتجها تلعب دورًا بالغ الأهمية بالنسبة إلى استخداماتها المختلفة. ويتّخذ بناء هذه الورقة البحثية شكل العرض؛ فمنهجيّتها وأسلوبها غير نمطيّين. وفي حين أنّها قد تبدو مفرطة في طرح الأسئلة، إلّا أنّها تطرح سؤالًا واحدًا فقط، لكنّه سؤال صعب وواسع: هل يمكن لمقاربة وتحليل العدالة الاجتماعية أن يُكوّنا ممارسة عملية تتّسع لعمق نضالاتنا في السياق اللبناني؟ إنّ عملية طرح هذا السؤال، بحدّ ذاتها، تجيب عنه، وكأنّها تمرين في اعتماد إطار عمل العدالة الإنجابية.
من خلال الكشف عن أصول وتاريخ هذا الإطار، والإضاءة على تمايزه عن إطار الصحّة والحقوق الانجابية، نقوم بتوسيع نطاقه، ليشمل رزمة من النضالات والقضايا الاقتصادية والاجتماعية-السياسية في لبنان، معتمدات على منهجية نصف شاملة، تسعى إلى نسج الحراكات ببعضها البعض، وتحويلها إلى مصفوفة من العدالة: بدءًا من العدالة البيئية، إلى المواطنة، الحدود، الهجرة، اللجوء، العنف، الوصول إلى خدمات الصحّة الجنسية والإنجابية، الميول الجنسية، الهويّات الجندرية، والإعاقة. ونجد أنّ الفرص لإحقاق العدالات الإنجابية كثيرة على قدر كثرة الاضهاد الإنجابي الذي تواجهه المجتمعات والمجموعات والناس. وتكمن القيمة في طرح إطار مختلف يعمل كعدسة قادرة على إزالة الغموض المفاهيمي، وعلى توفير رؤية جديدة إلى المشكلات البنيوية القديمة الأمد. فالعدالة الإنجابية قد تكون الإطار العملي الغائب والذي نحتاج بشدّة من أجل تكوين أوجه تضامن عابرة لمختلف الحراكات وللتصدّي لمناورات الدولة التقسيمية.
نشوء العدالة الإنجابية
في العام ١٩٧٤، أدانت أنجيلا دايفيس عنصرية الدولة وقيامها بالتعقيم القسري ضدّ النساء الأصليّات والسوداوات، عبر خطابها الافتتاحي لتظاهرة في رايلي (نورث كارولينا) بدعم من تحالف شمال كارولينا ضدّ العنصرية والاضطهاد السياسي. كما أشارت حينها إلى قضية مفتوحة، جلبتها إمرأة سوداء إلى المحكمة، وكانت قد اكتشفت، في سنّ التاسعة عشر، أنّه تمّ تعقيمها منذ أن كانت في سنّ الرابعة عشر [1]. أيضًا، رفضت مجموعة من النساء الملوّنات وَهْم "(حرية) الخيار" الرائج ضمن الخطابات "المناصرة للخيار(في الاجهاض)"، وذلك بعد عشرين عامًا، أي بعد فترة وجيزة من انعقاد المؤتمر الدولي للتنمية والسكان في القاهرة، ١٩٩٤. كما أنّهن طرحن سياقًا أشمل وأصدق عن واقعهنّ المعاش، وقصصهنّ تحت وطأة الاضطهاد الانجابي، وقمن معًا، وخلال مؤتمر لـ"مناصرة الخيار (في الاجهاض)"، في شيكاغو، بتشكيل مجموعة منفصلة للنساء السوداوات، حيث ظهر، ولأوّل مرّة، مصطلح العدالة الانجابية – إطار عمل تطوّر كثيرًا قبل الثمانينات [2]. وجدت عديدات من النساء الملوّنات، أنّ الحراك المناصر للخيار (في الاجهاض) محقًّا في مطالبته برنامج عمل المؤتمر الدولي للتنمية والسكان1 بالمزيد بما يخصّ بالإعتراف بحقّ النساء في اتّخاذ القرار بإنهاء الحمل. ولكنهنّ انتقدن النطاق المحدود للحقّ في الإجهاض ضمن مقاربة "الخيار"، والتي تتجاهل الاضطهاد الممنهج الذي يحدّ من السيادة الإنجابية ويحجب القدرة على اتّخاذ هذه "الخيارات الحرّة". لقد أدركت النساء الملوّنات أنّ الأطر القانونية لن تكون كافية لضمان الوصول إلى الصحّة الإنجابية أو توفّرها، ولا لنيل عدالة قرون من الاضطهاد الانجابي.
1. يُظهر برنامج عمل المؤتمر الدولي للتنمية والسكان، للعام 1994، علاقة وثيقة بين اعتلال الأمّهات والموت، والإجهاض غير الآمن؛ بوصفه هاجسًا صحّيًأ عامًا، وليس كمسألة مرتبطة بحقوق النساء. كما يناصر من أجل تقليص الإجهاض عبر توسيع خدمات التنظيم الأسري، التعليم، وخدمات الاستشارة ما بعد الإجهاض. وهو يشترط بوضوح، حيث لا يعدّ الإجهاض غير قانونيًا، توفير المعلومات المأمونة والاستشارات المتفهّمة وخدمات الإجهاض الآمنة.
بعد ذلك، أسّست بعض النساء اللواتي شاركن في التجمّع العفوي للنساء السوداوات في شيكاغو المجموعة الأولى التي طرحت مسألة العدالة الانجابية في الولايات المتّحدة، وكان إسم المجموعة: مجموعة سسترسونغ SisterSong للصحّة الإنجابية للنساء الملّونات (والتي أصبحت اليوم مجموعة سسترسونغ للعدالة الإنجابية للنساء الملّونات). وتضمّ سسترسونغ اليوم نساء أصليّات، إفريقيّات أميركيّات، عربيّات، وشرق أوسطيّات، آسيويّات، ونساء من جزر الهادئ، ولاتينيّات، وأفراد من مجتمع الميم، للعمل من أجل تحسين السياسات المؤسساتية والأنظمة التي تؤثّر على الحيوات الإنجابية للمجتمعات المهمّشة [3]. كما ضمّت مجموعة "المجتمع الآسيوي من أجل عدالة إنجابية" (أصبحت تسمّى اليوم "معًا إلى الأمام "Forward together)، وهي عضو في سيسترسونغ منذ 1989، صوتها إلى صوت سيسترسونغ، بارزةً الحاجة إلى مجتمعات آمنة ومستدامة، كما إلى سيادة جسدية حقيقية في الخيارات الإنجابية. وتعتقد معًا إلى الأمام، أنّ الوصول إلى الموارد السياسية-الاجتماعية وإلى القوّة الاقتصادية يمتّن الخيارات الصحّية المتعلّقة بالجندر، والأجساد، والجنسانيّات، والعائلات [4]. ومن جهتها، تشرح سيسترسونغ مسؤوليّة الحكومة في حماية كافّة حقوق الانسان، ومن ضمنها الحقوق الانجابية؛ فالعدالة الانجابية، بالنسبة إلى سسترسونغ، ترتبط، بالدرجة الأولى، بتأمين الوصول إلى هذا الخيار وتسهيل تقديم خدمات الاجهاض، والأهمّ تأمين الوصول إلى وسائل منع الحمل، والتربية الجنسية الشاملة، والرعاية والوقاية من الالتهابات المنقولة جنسيًّا، والخيارات الانجابية البديلة، والرعاية الملائمة للأهل وللحوامل، والدعم في حالات العنف الأسري، والأجور الكافية لإعالة العائلات، والمساكن الآمنة [3]. بالنتيجة، تركّز المجموعتان، من خلال تعريفيهما، على مواجهة الاضطهاد الانجابي باعتبار أنّ قضايا الصحّة الانجابية تؤثّر على الناس بشكل متفاوت، وفقًا للتشكيل الاجتماعي والتراتبية الطبقية، والعرق، والنوع الاجتماعي/الجنر [2]. فإذن، تشمل العدالة الانجابية تحليلًا للصحّة والحقوق الانجابية والجنسية على صعيد اجتماعي واقتصادي وبيئي، وأيضًا على صعيد عدالة النوع الاجتماعي/الجندر.
العدالة مقابل الحقوق المنتقصة
بدأت عملية تطبيع خطاب ولغة حقوق الإنسان في لبنان منذ ٧٠ سنة، عندما تمّت المصادقة على الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في ١٩٤٨. وخلال صياغة الإعلان العالمي، قام شارل مالك، ممثّلًا لبنان حينها، بالوقوف إلى جانب مجموعة الضغط (اللوبي) الآسيوي والعربي ضدّ القوى الغربية والسوفياتية، لضمان حقّ الأفراد بتقديم شكاوى حول انتهاكات حقوق الإنسان. ولكن، للمفارقة، قام إدوارد رزق، والذي حلّ مكان مالك في تمثيل لبنان، بتبنّي الرأي المقابل: واعتبر أنّ السماح بتقديم الشكاوى الفردية جعل الدول تظهر كأنّها طاغية بطبيعتها، كما أنّه قد يسمح للمدافعين/ات عن حقوق الإنسان باستغلال هذه الآلية [5]. إنّ وجود موقفان متناقضان تمامًا لممثّلَين من الدولة ذاتها، يبرز تنافرًا قديمًا ومستمّرًا بمن نثق: الأشخاص أم الدولة. وفي سياق مشابه مثلاً، تُعرّف المنظّمة العربية لحقوق الإنسان2 عن نفسها، ومنذ تأسيسها، ككيان لا حزبي يسعى إلى الإصلاح والوساطة، لا إلى السلطة السياسية. وذلك، حتّى لا تعتبرها الدول مصدرَ تهديد، وبالتالي، تسمح لها بالعمل في بلدان مختلفة. وهكذا، لم تشكّل المنظّمة أيّ تهديد بالتمرّد أو الحراك الجماهيري، لأنّها استخدمت لغة حقوق الإنسان النخبوية والناجمة عن التعليم النظامي، كما كان لأعضاء المنظّمة علاقات مقرّبة مع سياسيّين في دول أكثر من علاقاتهم مع المجموعات القاعدية. في الحقيقة، إن المنظّمة العربية لحقوق الإنسان، ومن خلال حوارها مع الحكومات حول انتهاكات حقوق الانسان، تضمن للدول شرعية تُجاهر بها في المحافل الدولية [6].
2. المنظّمة العربية لحقوق الانسان هي منظّمة غير حكومية، تعمل على قضايا حقوق الانسان في العالم العربي. تأسست عبر قرار متّفق عليه في حمّامات، تونس، في العام 1983.
يحتاج الناس إلى بعض الوقت لإدخال هذه اللغة في يوميّاتهم/ن، خاصّة أنّ اللغة العالمية لحقوق الإنسان سقطت من مشهد سياسي عالمي على تلك المداولات الملتبسة بين منظّمات حقوق الإنسان والحكومات. فكلمة rights تُترجم إلى حقوق باللغة العربية، وكلمة law تعني قانون. ولكن الكليّات الجامعية التي تمنح شهادة في القانون، تستخدم عبارة شهادة في الحقوق، وتسمّي اختصاصاتها الفرعية اختصاصات فرعية في القانون (مثلًا القانون الجنائي، القانون التجاري، القانون العام، إلخ) [7، 8]. وقد يسهم هذا الخلط بين العامي والرسمي لكلمتي "الحقوق" و"القانون" في زيادة اللغط حول مصطلح الحقوق: فالقانون، نظرًا لعدم مرونته، غالبًا ما يميّز، أمّا الحقوق فلا، أمّا صانعو القانون فهم مواطنون، وغالبًا، رجال نمطيّون ذوو نفوذ ومركز وسلطة. ولم ينجح القانون اللبناني في الحماية أو الحفاظ على أبسط الحقوق الإنسانية للنساء واللاجئين/ات، والمهاجرين/المهاجرات، والكويريّين/ات، وعابري/ات النوع الاجتماعي/الجندر، والطبقات العاملة، والمسجونين/ات، والأشخاص المتعايشين/ات مع الإعاقة، والأشخاص المتعايشين/ات مع فيروس نقص المناعة البشرية، وعاملات الجنس. ولكن الأهمّ هو أنّ لغة حقوق الإنسان تُمارس حصرًا من قبل المناصرين/ات والمدافعين/ات عن حقوق الإنسان، والمحامين/ات، والسياسيين/ات، والقضاة، والعاملين/ات في المنظّمات غير الحكومية. إذن، هي لغة ملّقنة ومكتسبة، وعلى الأرجح ليست اللغة التي يستخدمها من هم/ن بحاجة ماسّة إليها. بينما يستحضر لفظ العدالة، بحدّ ذاته، شعورًا بالحقّ وبالنضال في سبيل هذا الحقّ. فالعدالة قادمة لا محالة؛ لأنّها مطلوبة ومستحضرة ومحقّقة. كما أنّها تجول عبر الأزمان، وقد يكون مفعولها رجعي، أو في الحاضر، أو في المستقبل. أمّا عهود ومعاهدات حقوق الانسان فهي قد تكون، أو أنّها غالبًا، مرتبطة بالموافقة (التصديق) عليها، بغضّ النظر عن مدى مثالية لغتها. العدالة لا تحتاج إلى تصديق أو موافقة، للجميع الحقّ في السعي إليها – ليس على الفرد أن يكون/تكون مناصرًا/ة أو مدافعًا/ة عن العدالة، فالعدالة ليست جامدة كالقوانين والحقوق، والمسيرة والنقاش في سبيل إحقاق العدالة يعكسان حقيقة الواقع المعاش للناس. إن مرونة العدالة، تحديدًا – أي قدرة الجميع على ممارستها – هي، تمامًا، ما يجعلها قابلة للتحقيق، حيث نجد تشكيكًا لدى من يواجهون/تواجهن الظلم/اللاعدالة، حيال مقولة أنّ الحقوق لا تتجزّأ، الصادرة عن المدافعين/ات عن حقوق الانسان. ففكرة امتلاك حقوق غير ملموسة وغير محسوسة، لا تشكّل ضمانة، بالنسبة إليهم/ن. فكيف يناضل الفرد في سبيل ما يملك أصلًا؟ من المضحك أن يكون مبدأ عدم تجزّؤ الحقوق هو ما يجعلها، في أغلب الأحيان، غريبة.
أمّا العدالة الاجتماعية فهي تتطرّق إلى الإساءات الواقعة في الهوّة الواسعة بين لغة الحقوق الانجابية، والاجراءات المتّخذة محليًّا من أجل حماية هذه الحقوق. ففي العام 2013، وبعد فترة طويلة من تبنّي منظّمة الصحّة العالمية تعريف المؤتمر الدولي للتنمية والسكان للحقوق الإنجابية [9]، حتّى قامت بتزويد الدول الأعضاء بدليل توجيهي تقني حول كيفية إدارة العقبات الناجمة عن الإجهاض غير الآمن، وحول توفير خدمات الإجهاض الطبّي والجراحي. ولكن، أوصى الدليل التوجيهي بضرورة تطبيق هذه الإجراءات بانسجام تام مع القوانين المحلية [10]. نتيجة لذلك، أصبح الإجهاض في معظم البلاد، ومن ضمنها لبنان، محصورًا بالنساء اللواتي تُعتبر حياتهن في خطر. وبعد مرور عقدين من الزمن، على انعقاد المؤتمر العالمي للتنمية والسكان، نشرت منظّمة الصحّة العالمية دليلها الثاني حول الإجهاض الآمن، وقد قامت المنظّمة بإدخال إضافات حول أحدث وأفضل الممارسات في هذا المجال، كما قدّمت، وأخيرًا، حججًا واضحة حول أهمية دمج خدمات الإجهاض ضمن الأنظمة الصحّية، مصرّحةً بأنّ تغيير السياسات والقوانين باتجاه عدم تجريم الإجهاض ينسجم مع أطر حقوق النساء والإنسان [11]. وعلى الرغم من استخدام عبارة أنّ للنساء الحق في تقرير إنهاء الحمل أم لا، تبقى نساء كثيرات مقيّدات نتيجة قوانين العقوبات المحلية، ووضعهن القانوني، ووضعهن العائلي، والتوظيف/العمل، ووضع اللجوء، والوضع الاقتصادي، والقدرة على الوصول إلى الصحّة، والحجز على حرية التنقّل، وتوفّر/القدرة على الوصول، والوصمة من قبل مقدمي/ات الرعاية الصحية، وأخيرًا وليس آخرًا، أفراد العائلة، الزوج، المرجعيّات الدينية، وتفاعلات شخصية أخرى.
إنّ النضال من أجل إجهاض آمن وقانوني ومتاح ومجاني هو، حتمًأ، نضال مركزي في سبيل إحقاق العدالة الانجابية. ولكن هذه المعركة تمتد إلى ما هو أبعد من ذلك بكثير، كما صرّحت سسترسونغ وغيرها من المنظّمات منذ عشرين عامًا. ونحن في مشروع الألف3 نتبنّى رؤية العدالة الإنجابية التي تتبنّاها سسترسونغ4 ومعًا إلى الأمام5. ويهدف إطار العدالة الإنجابية الذي نعتمده إلى مواجهة الظروف المادية التي تمنع من ممارسة الحقوق الإنجابية وحقوق العمل وحقوق النساء والحقوق الجنسية والبيئية والسياسية، حقوق المعوّقين/ات، وحقوق الإنسان الأساسية الأخرى. كما نقوم بتوسيع رقعة هذه الرؤية لتشمل الدلالات التاريخية والجيوسياسية للبنان، وبالتالي، ترتكز معركتنا من أجل العدالة الإنجابية إلى سياسات نزع الاستعمار والتضامن بين الجنوب والجنوب. ونعتبر أيضاً أنّ النضال لا يتجزّأ، بل هو مترابط في مناخ سياسي يتعامل مع القضايا وكأنّها معزولة في صوامع. ومن واجبنا في معركتنا هذه، أن ندعو الناس والحركات القاعدية ومجموعات المجتمع المدني والمنظّمات غير الحكومية إلى تبنّي هذا الإطار. ولقد باشرنا بهذا التمرين لبلورة الاحتمالات، من أجل رؤية الظلم البنيوي من منظور العدالة الانجابية، ولكي نبدأ من خلال التطلّع إلى جوهر الصراعات المتعدّدة في لبنان، ألا وهو المواطنة.
3. المنظّمة العربية لحقوق الانسان هي منظّمة غير حكومية، تعمل على قضايا حقوق الانسان في العالم العربي. تأسست عبر قرار متّفق عليه في حمّامات، تونس، في العام 1983.
4. الحقّ الإنساني في الحفاظ على السيادة الجسدية الشخصية، إنجاب الأطفال، عدم إنجاب الأطفال، ورعاية أطفالنا في مجتمعات آمنة ومستدامة.
5. يحقّ للجميع امتلاك الموارد والسلطة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية من أجل اتّخاذ قرارات بشأن النوع الاجتماعي/الجندر، الجسد، الجنسانية، والعائلات فيما يخصهم/ن ويخصّ مجتمعاته.
لمحة عن نطاق التغطية الواسع للعدالة الإنجابية
1. المواطنة
في لبنان، تُميّز قوانين المواطنة غير العادلة بحسب النوع الاجتماعي/الجندر، فمواطنة النساء أقلّ قيمة من مواطنة الرجال. والنساء اللبنانيّات، عندما حصلن على حقهنّ في الانتخاب، ربحن المشاركة السياسية والتمثيل، إنّما من دون المستحقّات الاجتماعية للمواطنة [12]. ويبرز ذلك بشدّة من خلال عدم تمكنهنّ من إعطاء جنسيّتهن إلى أزواجهنّ وأولادهنّ، في حين يستطيع الرجال فعل ذلك. فلبنان، كغيره من البلاد في غرب آسيا وشمال أفريقيا، يستند في إعطاء الجنسيّة على سلالة الأب، بدلًا من إعتماد التجنيس، أي، الاعتماد على بلد الولادة. ما إن تتزوّج المرأة اللبنانيّة من رجل غير لبناني، حتّى يصبح أولادها كأيّ مواطن غير لبناني، وبالتالي، عرضة لمضايقات من الدولة بخصوص إقاماتهم، عملهم، حيازتهم على ممتلكات أو على إرث، وفرص التعليم، ووصولهم إلى الخدمات الصحّية [13]. فتُعاقب، إذن، رغباتهنّ المنحرفة سياسيًّا، وقراراتهنّ في اختيار الزوج. ويُؤكّد على هذا الاستثناء القانوني الذي يسمح للنساء بإعطاء الجنسية لأولادهنّ في حال الإنجاب خارج الزواج، أو في حال كان الأب مجهول الهوية [14]. فضلًا عن الوصمة الاجتماعية كأولاد غير شرعيّين، يُمنع هؤلاء، رغم اعتبارهم لبنانيين، من شغل المناصب الحكومية. فالدولة تفضّل أولاد النساء اللبنانيات المولودين خارج الزواج، على أولئك المولودين من رجال فلسطينيّين أو سوريّين. فقد صرّح رئيس التيّار الوطني الحرّ ووزير الخارجية جبران باسيل، في خطابه الذكوري والطائفي والعنصري، حول تعديل قانون الجنسية، أنّه يدعم حقّ النساء في إعطاء جنسيّتهنّ، طالمًا أنهنّ لن يتزوّجن من "البلدان المجاورة" (أي اللاجئين ذوي الأكثرية المسلمة) [13]. كما أنّه حرّض على الكراهية ضدّ النساء غير المتزوّجات، واصفًا بـ"الغريب وغير المقبول" التمييز ضدّ الأولاد الشرعيّين للمرأة اللبنانية، بينما يتمتّع غير الشرعيّين بالحقوق [15]. فإذن، أيّ وكلّ جهد للسيطرة على السكان يؤثّر على النساء. ففي لبنان، يُعتبر منع النساء من إعطاء جنسيّتهن إلى السوريّين والفلسطينيّين، جزءًا من خطّة أكبر للأحزاب السياسية المسيحية، تهدف إلى إبطاء النمو السكاني الإسلامي، بينما يتمّ الاستثمار في النمّو السكاني المسيحي، والذي وصل إلى حدّ دعوة الشتات المسيحي الغائب منذ الأزل وزوجاتهنّ إلى استرجاع الجنسية اللبنانية [16].
وينسجم إتّهام النساء بالتقليل عمدًا من حظوظ أولادهن، في حال أنجبن خارج الزواج، أو من زوج غير لبناني، تمامًا، مع ثقافة اللوم التي تنبذ النساء عندما يمارسن حقّهن في ممارسة الجنس خارج الزواج، وإنشاء العائلة، واختيار شريكهن، ورغبتهن أم عدم رغبتهن في الرجال، وخاصّة الرجال اللبنانيين. فالرغبة بالزوج اللبناني المرعية من قبل الدولة تضمن حصول أفراد العائلة على فرص أفضل وعدم تعرّضهم/ن إلى مضايقات من قبل أجهزة الدولة وحصولهم/ن على المستحقّأت الكاملة للجنسية اللبنانية – إلّا إذا أنجبن بناتًأ، طبعًا. فالقيود القانونية والعواقب الناتجة عن قانون الجنسية تعيق سيادة النساء على أجسادهنّ؛ وتؤثّر بشكل مباشر على علاقاتهن بأولادهن، وقرارتهنّ الإنجابية، وسلامة عائلتهنّ، ورفاههنّ الاقتصادي والاجتماعي.
2. الحدود، الهجرة، واللجوء
ليس من الصعب توقّع موقف الدولة اللبنانية من النساء الأجنبيّات، فهي، أصلًا، تشكّك بمواطنة مواطناتها النساء. هذا ويشكّل السوريون والفلسطينيون والفلسطينيون السوريون والعراقيون والعمال الأجانب وعاملات المنازل المهاجرات ربع سكّان لبنان، حيث يعبر اللاجئون/ات والمهاجرون/ات الحدود اللبنانية من أجل اللجوء من الحروب والنزاعات، واللجوء السياسي والعمل. وبما أنّهن من غير المواطنات، تواجه النساء وعابرات النوع الاجتماعي، درجات مضاعفة من الاضطهاد الإنجابي، بناءًا على نوعهنّ الاجتماعي ووضع إقامتهن وعرقهنّ وطبقتهنّ الاقتصادية وجنسيّتهنّ ودينهنّ. كما يواجه اللاجئون/ات الموجودون/ات في لبنان عوائق وبيروقراطية تحول دون حصولهم/ن على الرعاية الصحّة الجيّدة والمقبولة السعر، من ضمنها الصحّة الإنجابية والجنسية. فالتسجيل لدى وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل لاجئي فلسطين في الشرق الأدنى( الأونروا) بالنسبة للفلسطنيين، أو لدى المفوضية السامية للأمم المتّحدة لشؤون اللاجئين (المفوضية) بالنسبة للسوريّين، يتيح الوصول إلى بعض الخدمات الصحّية، هذا في حال تمّ تسجيلهم/ن. وحتّى عندها، تبقى حاجات اللاجئين الصحّية مرتبطة بمدى اعتبارها ضرورية من قبل هذه المؤسسات.
النساء السوريّات
أظهرت دراسة حديثة تضمنّت لاجئين/ات (العدد= 20،642) ومهاجرين/ات (العدد=3395) وسكان محليّين/ات (العدد=11634)، أنّ المجموعتين الأولى والثانية، هما على التوالي 2.6 و1.8 أكثر عرضة للإصابة بالسرطان، مقارنة بغيرهم/ن من السكان المحليين/ات. كما أن النساء اللاجئات كنّ، بوضوح، أكثر عرضة، مقارنة بالرجال، فنصف أنواع السرطان المكتشفة تستهدف أعضائهنّ التناسلية-عنق الرحم، المهبل، الثدي [17]. فالسوريّون/ات، وخاصة النساء منهن، واللواتي يطلبن اللجوء إلى الأردن، هنّ أكثر عرضة للبقاء دون علاج للسرطان، نظرًا لانقطاع الدعم المالي المخصّص لعلاج السرطان [18]. إذ يؤدّي غياب الوقاية وخدمات الكشف المبكر إلى حصول النساء على تشخيص متأخر ونتائج سلبية. فالرعاية الصحية الإنجابية المرتبطة بالمساعدات الإنسانية هي مؤقتة وتقتصر على "سن الإنجاب". بالنسبة للاجئات السوريّات، تغطي المفوضية تكاليف الولادة وما بعد الولادة، كما تقدّم وسائل منع الحمل، لكنّها لا تلبّي حاجات النساء اللواتي تعانين من العقم، أو تطلبن التعقيم، أو تعانين من سرطانات تناسلية، أو تحتجن إلى طبابة نسائية مختصّة بالالتهابات أو انقطاع الحيض. ويستحيل على كثيرات من النساء السوريّات دفع التكاليف الباهظة للرعاية الصحّية في لبنان. وفي حين تغطّي المفوضية ثلاثة أرباع قيمة فاتورة المستشفى، في حالات الولادة المهبلية (الولادة القيصرية تحظى بتغطية أقلّ)، تعجز كثيرات عن دفع الربع المتبقّي، فتبقين محتجزات في المستشفى حتّى تسديد كامل الفاتورة، أو يتمّ مصادرة بطاقتهن الشخصية كفدية. كما تخاف اللاجئات السوريّات الراغبات في إعادة التوطين مع عائلاتهن من إنجاب مزيد من الأطفال حتى لا تتقلّص حظوظهنّ بإعادة التوطين عبر المفوضية، حيث يقرّرن، في بعض الحالات، إنهاء حمل مرغوب حتّى لا تُلحقن الضرر بفرصهن وفرص عائلاتهن [19]. فالخطاب الوطني السائد في الإعلام وبين الفرقاء السياسيين يصوّر النساء السوريّات أنّهن جاهلات، رجعيّات، وأمهّات مهملات لأنّهن، وعلى التوالي، تجهلن كيفية استخدام وسائل منع الحمل، وتمارسن الجنس في بيوتهن المكتظّة أمام أعين أولادهن، وتنجبن الأطفال إلى عالم الفقر. ويجعل هذا الخطاب من رحم المرأة السورية قضية رأي عام، ومن المرأة الحامل تهديدًا للموارد العامة والأمن. وتؤثّر تداعيات دعاية كهذه على قدرتهن على الوصول إلى الصحّة وسبل كسب المعيشة والمسكن والأمن، كما تؤثّر على رفاه عائلاتهن [19]. فالنساء السوريات لسن أكثر عرضة للإصابة بالأمراض والموت فحسب، بل يتحمّلن، أيضًا، مسؤولية ذلك.
النساء الفلسطينيّات
كان الإفقار الممنهج للفلسطينيين/ات في لبنان، ومنذ أكثر من 70 عامًا، مدمّرًا بالنسبة إليهم/ن، وخاصّة النساء الفلسطينيّات. فتحت ذريعة "حقّ العودة"، طبّقت الدولة اللبنانية، وبفعالية، قوانين تمييزية منعت من خلالها الفلسطنيين/ات من تحسين مستوى حياتهم/ن، حيث يتوجّب عليهم/ن، وفقًأ للقانون، الحصول على رخصة عمل؛ وهم/نّ ممنوعون/ات من العمل، على الأقلّ، في 19 مهنة نقابية ذات مدخول أعلى، وممنوعون/ات من التملّك، ومن تأسيس عمل، كما أنّهم/نّ مستثنون/يات من الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، ومن مستحقّات الأمومة والمرض، ومستحقّات المعونة العائلية [20]. يُظهر هذا التمييز الإنتقائي ضدّ النساء الفلسطينيّات في قانون العمل أنّ الدولة اللبنانية لا تأبه بالرفاه الإنجابي للنساء الفلسطينيات، ولا باعتبارهن نساء، حيث لا يستحقّن الرعاية ذاتها التي تحقّ للمرأة اللبنانية العاملة: وعلى الرغم من دفع الأجور إلى الصندوق الوطني للدعم الاجتماعي، إلّا أنّ هذا الدعم يخدم فقط المواطنين/ات، ضمن حدود تعريف الدولة اللبنانية للمواطنة. وحتّى خارج دورهنّ كعاملات، تبقى النساء الفلسطينيّات مستبعدات عن البرامج الوطنية، التي تؤمّن، مجانًّا، فحوصات الثدي الشعاعيّة، بهدف الكشف المبكر عن سرطان الثدي [21]. وقد قلّصت الولايات المتّحدة قبل أسبوع من إطلاق ترامب لسياسة كمّ الأفواه العالمية ميزانية الأونروا بـ350 مليون دولار، معرّضة الصحّة الانجابية والجنسية للنساء الفلسطينيات حول العالم إلى خطر جسيم [22]. في ظلّ هذا الحرمان من الرعاية الصحّية الانجابية والذي حصل مؤخّرًأ، بالإضافة إلى ضعف المؤشّرات الاقتصادية-الاجتماعية المرتبطة بالصحّة، والتي تزيد خطر إصابتهن بالسرطانات التناسلية، تُجبر النساء الفلسطينيّات دفع تكاليف باهظة، على حساب ميزانية عائلاتهنّ، في سبيل صحتّهن. أمّا في الحالات المؤسفة عندما تصاب المرأة بالسرطان ويكون الكشف متأخّرًا والتشخيص سلبيّ للغاية، يصبح العلاج مكلفًا جدًّا، بحيث لا تملك المرأة فرصة المقاومة للنجاة من مرضها. إنّ الإقصاء المتعمّد للنساء من خدمات الرعاية الأولية المتوفّرة، والتي تعزّز فرص الشفاء، ما هو إلّا محو بطيئ ومؤلم؛ إنّه بالتحديد تعريف الاضطهاد الانجابي. ويبقى التجنيس الأمل الوحيد الذي تمنحه الدولة اللبنانية للنساء الفلسطينيات، وهو يتمّ عبر الزواج من رجل لبناني. بالمبدأ، يحقّ للنساء الفلسطينيّات والسوريّات الحصول على الجنسية اللبنانية، وما تحمله من مكتسبات، بعد سنة واحدة من الزواج [13]. ولكن، على أرض الواقع، وبعد التحقيقات التي يجريها الأمن العام للتأكّد من موثوقية هذا الارتباط، تستغرق هذه العملية مدّة تصل إلى 3 سنوات أو أكثر، خاصّة إذا لم تنتج المرأة ذريّة لبنانية. هذه الممارسة غير القانونية، والمدعومة، من دون خجل، من ضابط برتبة مرموقة في الأمن العام، تلقي الضوء على معاملة الدولة الكارهة للنساء للفلسطينيات والسوريات واللبنانيات على أنهن مجرّد أحواض حاضنة للمواطنين/ات اللبنانيين/ات، من غير أن يستحقنّ، بالفعل، تلك المواطنة بأنفسهنّ.
النساء المهاجرات
تعدّ النساء المهاجرات، مقارنة بالنساء المواطنات، أكثر عرضة للسرطان، عامّة، والسرطانات التناسلية تحديدًا. فهنّ الأقلّ حظًّا في الحصول على خدمات التوليد، وأكثر عرضة لاختبار موت الجنين عند الولادة وموت الرضّع، واكتئاب ما بعد الولادة، وصعوبة التواصل مع العاملين/ات في الرعاية الصحّية، كما أنّهن أكثر عرضة إلى الموت جرّاء الولادة [23]. ففي لبنان، تعاني النساء المهاجرات، وخاصّة عاملات المنازل المهاجرات القادمات من بلدان مختلفة من جنوب وشرق آسيا، من انتهاكات جمّة تطال حقوقهنّ الإنسانية ومن الاضطهاد الإنجابي بأشكاله المتعدّدة. ولا تشبه وظيفة العاملات المهاجرات أيّ وظيفة أخرى: حيث تخضع عاملات المنازل المهاجرات، تبعًا لنظام الكفالة، إلى وصاية أبوية، لتصبحن "مسؤولية" موظِفيهن. تُمنع غالبية عاملات المنازل المهاجرات المقيمات في مساكن موظّيفهن/كفلائهن، من مغادرة مكان العمل والإقامة، ومن التواصل مع عائلاتهن في بلدهن الأم، أو مع عاملات أخريات عبر الشرفة. وهذه العزلة ليست مجرّد تعبيرًا شفهيًا: فأبواب المنزل تُقفل عندما تغادره العائلة، وتُصادر جوازات سفرهنّ، وتتمّ مراقبة وسائل الاتصال التي تربطهنّ بالعالم الخارجي [24]. فيتزامن انتزاع العاملة المهاجرة من عائلتها مع دمجها في العائلة حيث تعمل، إذ يتضمّن وصفها الوظيفي غالبًا الأعمال المنزلية كالاهتمام بالأطفال [25]. ينتج عن هذه العزلة القسرية، والتي تترافق مع عنف جسدي ولفظي ومعنوي وجنسي من جهة، وتطبيع مع العنف وانعدام قدرة العاملات على التبليغ عن تلك الإساءات من جهة أخرى، نتائج مدمّرة على الصحّة العقلية لعاملات المنازل المهاجرات، حيث تهرب كثيرات من أماكن عملهنّ، وتنتحر إثنتين من عاملات المنازل المهاجرات أسبوعيًا [24].
يعمل نظام الكفالة بمعزل عن قانون العمل. وعلى الرغم من أنّ توظيف عاملات المنازل المهاجرات يخضع وبشدّة إلى تنظيم ورقابة وقوننة الأمن العام، يتمّ تجريدهن من إنسانيّتهن نتيجة النظام العنصري والذكوري والطبقي وتبقى ساعات عملهن وأيام عطلهن غير محدّدة. وعلى الرغم من كونهنّ يتقاضين أقلّ من الحد الأدنى للأجور في لبنان، فهنّ لا زلن يتلقّين أجورهن، أحيانًا، بعد سنوات من العمل، إن حصل. وبالفعل، وفي العام ٢٠١٥، تمّ تكريس منع النساء المهاجرات من الانخراط في أيّ علاقة شخصية، سواء كانت عائلية أو جنسية أو صداقة، من خلال مذكّرة صادرة من الأمن العام تطلب من كفلاء عاملات المنازل المهاجرات التعهّد بامتناع العاملات لديهم من الانخراط في أيّ علاقة حميمة خلال إقامتهن في لبنان [26]. وبالرغم من عدم تفعيل هذه المذكّرة لكنّها أظهرت موقف الأمن العام من النساء المهاجرات اللواتي تخرقن بنود العقد أو تعملن أو تعشن خارج البيت المخصّص لهن أو تنجبن الأطفال – يقدّر عددهن ب 15000 [23] – على الأراضي اللبنانية. هذا ويؤدّي ارتفاع الطلب على العمالة الرخيصة أو غير المدفوعة إلى الاتجار بالنساء، حيث يتمّ استعبادهن في العمل المنزلي أو في العمل الجنسي. فتُحرم النساء، المعزولات نتيجة نظام الكفالة، من الاستفادة من الرعاية الصحية، وتعانين من حمل غير مرغوب والإجهاض القسري والالتهابات المنقولة جنسيًّا وإبعادهن /فصلهن عن أطفالهن. منذ وقت وجيز، وُجدت العاملة الأثيوبية ليمبيبو ميتة في حوض السباحة في منزل ربّ عملها، وذلك بعد يومين من وضع طفلتها، والتي توفّيت بعد ساعات قليلة من الولادة [27]. وقد تمّ تمويه موت المرأة المهاجرة وطفلتها "غير الشرعية" (فالإنجاب غير قانوني ضمن العمل)، من دون تفسيرات طبية، إن من قبل الطبّ الشرعي أو الشرطة.
3. العنف
إنّ التحرّر من العنف هو حجر الأساس في سبيل إحقاق العدالة الإنجابية، إذ يشكّل العنف الممأسس للدولة والقطاع الطبّي اضطهادًا إنجابيًا على أجساد النساء المعتبرات "غير شرعيّات" وعلى ذوات/ذوي الهويّات الجندرية غير النمطية، كما شرحنا أعلاه وكما سنشرح أدناه. ولكن، الأشكال الأخرى من العنف والتي تبدو فردية أو ما بين الأفراد كالعنف المنزلي، وعنف الشريك الحميم، والتحرّش في الشارع، والاغتصاب، هي أيضًا، شكل من أشكال القمع الممأسس والمرعيّ من قبل الدولة.
العنف المنزلي
غالبًا ما تتجاهل القوانين المقترحة "لحماية" النساء من العنف المنزلي السياق الاجتماعي الأشمل والظروف البنيوية المؤدّية إلى تلك النزاعات [28]. أفادت منظّمة كفى اللبنانية، في العام 2014، أنّها تتلقّى 2400 حالة عنف منزلي سنويًّا، عبر خطّها الساخن، كمأ أنّها وثّقت، في السنوات الثلاثة الأخيرة، 25 حالة قتل للنساء على يد أحد أفراد العائلة [29]. وبعيدًا عن فكرة اعتباره مسألة شخصيّة، يحظى العنف المنزلي، بشكل مبطّن، برعاية قوانين الأحوال الشخصيّة. تنظّم هذه القوانين المسائل المتعلّقة بالزواج، الطلاق، الإرث، والوصاية، ولكن تختلف أحكامها باختلاف طائفة/مذهب الزوجين أو العائلة. فقوانين الأحوال الشخصية تجعل حصول النساء على الطلاق أمرًا في غاية الصعوبة مقارنة بالرجال الراغبين بالطلاق: فهي غالبًا ما تعفي الزوج من الرسوم الماليّة (إعالة الزوجة، النفقة، الخلع، ومؤخّر الصدّاق/ المهر)، كما أنّها تعطي الأفضلية للرجل في معارك حضانة الأطفال. فيبقى أمام المرأة خياران: إمّا البقاء مع زوج عنيف وإمّا الحريّة على حساب التخلّي عن نفقتها الزوجية وحضانة أطفالها [30]. كما أنّ اعتبار عدم إتمام "الواجبات الزوجيّة" مسوّغًا للطلاق (أي أن يكنّ متاحات جنسيًّا) يؤثّر على النساء أكثر بكثير من الرجال، ويعزّز فكرة أنّ ممارسة الجنس واجب على الزوجة. ولكن، ما من شيء يشجّع على فكرة الاغتصاب الزوجي أكثر من المجاهرة بعدم تجريمه عبر المادّة 503 من قانون العقوبات اللبناني والتي تعرّف الاغتصاب على أنّه "إكراه غير الزوجة بالعنف والتهديد على الجماع" [31]. وفي حين تمّت المصادقة على قانون حماية النساء وسائر أفراد الأسرة في العام 2014، غير أنّه استثنى، عمدًا، الاغتصاب الزوجي، وتضمّن بندًا ينصّ على إبطال كافة القوانين المتضاربة مع هذا القانون الحمائي، مستثنيًا قوانين الأحوال الشخصيّة [29].
إنّ تأمين اجراءات سهلة للنساء الراغبات بالطلاق أو إبراء الذمّة والمهر أو النفقة هو من الأمور المفيدة للنساء. ولكن، تبقى هذه الإجراءات غير كافية لحماية النساء في ظلّ القيود القانونية لمؤسسة الزواج. ينبغي على الحكومة اللبنانية، من أجل إحقاق العدالة الانجابية، أن تعترف أنّ فشلها هو ما جعل النساء في موقع التابعات للرجال، حيث يصبحن موجودات فقط، ضمن سجلّات النفوس التابعة لآبائهنّ أو لأزواجهنّ. فبالإضافة إلى التربية الذكورية، تضاعف التبعية الممأسسة للنساء اقتصاديًا واجتماعيًا ودينيًا وقانونيًا من هشاشتهن. وبالتالي، يتوجّب على الدولة تحمّل مسؤوليتها في موت النساء والعنف الذي تتعرّضن إليه، عبر منح النساء المعنّفات وأطفالهن مساكن مجانية، وظائف لائقة الأجور، رعاية صحّية مجانية، رفاه اجتماعي، ودعم لأطفالهنّ عند الحاجة، وإلًا ستبقى النساء محكومات بحاجتهن إلى دعم المعنّف المالي، كما إلى إذنه لمشاهدة أطفالهنّ. فالاستقلالية المالية والمسكن الآمن للنساء أو الأمهّات والأطفال الذين/اللواتي ي/تواجهن العنف تشكّل حجر الأساس في المعركة في سبيل إحقاق العدالة الانجابية.
عنف الشريك الحميم
أصبحت الحماية من العنف المنزلي في لبنان ممأسسة، إلّا أنّ نطاق شرعيّتها القانونية والاجتماعية لا تطال أشكالًا أخرى من عنف الشريك الحميم. فالقوّة غير المتوازنة ضمن العلاقات الحميمة تمنح نوعًا من الامتيازات التي قد تؤدّي عند سوء استخدامها إلى ديناميّات غير صحّية وعنف. فلا تستفيد الثنائيّات المتساكنة، أو الكويريّين/ات، أو مغايري/ات الميول الجنسية من القوانين التي تحمي من العنف المنزلي. فبالنسبة للدولة، تكون العائلة والنسب فقط ضمن إطار الزواج الغيري-النمطي. حيث تنحصر العلاقات الكويرية والعلاقات المغايرة الميول الجنسية غير المتزوّجة، في المجالات الخاصّة خوفًا من الأحكام؛ وفي حين تُعتبر العلاقات الحميمية الكويرية أقلّ قبولًأ وأكثر انحرافًا من العلاقات الغيرية الميول الجنسية، ما تزال بيئات ومناطق عدّة في لبنان تعتقد أنّ العلاقات خارج الزواج غير محترمة، لا بل مخزيّة للنساء. ولقد تمّ، منذ زمن بعيد، دحض الخرافة التي تعتبر أن عنف الشريك الحميم أقلّ فيما بين الثنائيّات الكويرية، تحديدًا النساء منهنّ، مقارنة مع الثنائيات الغيرية الميول [32]. في الواقع، يبدو أنّ وتيرة العنف في العلاقات الكويريّة، تعادل تلك الموجودة في العلاقات الغيرية الميول الجنسية، إن لم تكن أكثر، بحسب بعض الدراسات [32]. فالوصمة والعار والعداوات فيما بين المثليّين/ات والخوف من عدم التصديق والخوف من تشويه الصورة الكويرية وفقدان المجتمع (الكويري) أو فقدان صديق والتهديد من الشريك العنيف بفضح الميول الجنسية للعائلة أو أرباب العمل أو الأصدقاء هي بعض من الأسباب التي تجعل إنهاء العلاقة العنيفة أصعب على الأفراد الكويريّين، مقارنة بغيرهم/ن من الأزواج الغيرية الميول الجنسية [32]. وبالتالي، إنّ مأسسة الأبوية الغيرية تجعل عنف الشريك الحميم أمرًا غير وارد وغير موجود ضمن العلاقات الكويرية والعلاقات الحاصلة خارج إطار الزواج. وعليه، فإنّ تطبيق العدالة الجندرية سوف يضع هذه البنى القانونية جانبًا، ليخلق طرقًأ تتيح للأشخاص المنخرطون/ات في علاقات غير نمطية بناء عائلات خالية من العنف.
التحرّش الجنسي، العنف الجنسي، والاغتصاب
تتعرّض النساء والعابرات وذوي/ات التعابير الجندرية غير النمطية، وبنسب متفاوتة، إلى الاغتصاب والعنف الجنسي. وبينما تتضرّر المواطنات وغير المواطنات على حدّ سواء من العنف الجنسي، يصعُب على غير المواطنات اللجوء إلى العدالة أو التبليغ أو الوصول إلى الدعم الطبّي والقانوني والاجتماعي خوفًا من الترحيل أو الاحتجاز التعسّفي، فالأولوية في لبنان تُعطى للوضع القانوني للشخص وليس للجريمة قيد التبليغ. ففي لبنان، تُخبر النساء غير المتزوّجات (الأرملات، المطلّقات، والعازبات)، كما النساء السوريّات اللاجئات عن وضعهنّ الهشّ، نتيجة تعرّضهنّ للتحرّش الجنسي أو استدراجهنّ من أجل خدمات جنسية أو العنف الجنسي والاغتصاب من قبل غرباء يعرفون أنّهنّ غير متزوّجات [19]. لذا، نجد نساء سوريّات كثيرات مرغمات على القبول بزيجات ذات طابع استغلالي، أو زيجات مع شريك متعدّد الزوجات، وذلك ليس من أجل تحسين أوضاعهن أو أوضاعه أولادهن المعيشية، بل من أجل تلافي العنف الجنسي [19]. كما تجد عاملات المنازل المهاجرات، نظرًا للقيود المفروضة على تحرّكاتهن، صعوبة قصوى في التواصل مع الوكالة المستقدِمة أو المنظّمات غير الحكومية أو سفاراتهن في حال أردن التبليغ عن تحرّش جنسي أو عنف واجهنه في مكان عملهنّ. فالنساء المهاجرات المخلّات ببنود العقد يقعن مباشرة في خانة الإقامة غير الشرعية، حيث تؤدّي أيّ محاولة للتبليغ عن اغتصاب إلى حبسهن وترحيلهن [24]. هكذا، تصبح النساء المهاجرات أهدافًا مستساغة للعنف الجنسي، فالمغتصب، بصرف النظر عن جنسيته أو وضع إقامته، يدرك أن الأبوية والعنصرية المرعيّتين والمدعومتين من قبل الدولة تجعلان من الاغتصاب جريمة يسهُل ارتكابها. كما تخشى العابرات من التبليغ عن العنف الجنسي، نتيجة انعدام ثقتهن بالشرطة المحلية، التي تضايقهن باستمرار وتعتقلهن وتدينهن بتهمة العمل في الجنس و"التشبّه" بالنساء، والإخلال بالأخلاق والآداب العامّة، وانتحال الصفة، والمجامعة "بخلاف الطبيعة" [33]. وفي الإطار نفسه، قلّما يقوم الرجال المثليون بالتبليغ عن الاغتصاب إلى السلطات المحلية الأبوية، خوفًا من عدم تصديقهم، أو تسخيفهم، أو تعييرهم برجولتهم من قبل دولة تفسّر الاغتصاب قانونيًا واجتماعيًا أنّه إيلاج قسري ضد طرف أنثوي أضعف أو ضدّ جنس يتشبّه بالنساء. في الواقع، وحتى فترة قريبة، بقيت الفحوصات الشرجية من قبل الشرطة ممارسة لها شرعية قانونية، تهدف إلى كشف المثليّين من الرجال. فمن وجهة نظرهم (الشرطة)، يُعتبر الذين يقومون بفعل الايلاج (الفاعلون) رجالًا حقيقيين، بعكس المثلييّن المتلقّين للايلاج عبر الشرج (المفعول بهم) [34]. وبالتالي، ليس مستغربًا تكتّم النساء المغتصبات من قبل نساء أخريات، في ظلّ هذا المفهوم الاجتماعي والقانوني الأبوي للاغتصاب، أي أنّه ولوج بواسطة القضيب. ففي ظلّ وصول غير متكافئ للدعم الاجتماعي والخدمات الرعائي، تبقى سيادة الجسد والصحّة العقلية والجنسية والانجابية للأشخاص المنتمين/ات إلى مجتمعات/بيئات مختلفة، مهدّدة نتيجة تعمّد القوى الأمنية في الدولة تجاهل العنف الذي يواجهون/تواجهن.
4. الوصول إلى خدمات الصحّة الجنسية والإنجابية
صحة الأم والإنجاب
تهيمن مهنة الطبّ على صحّة الأمهّات في لبنان، وتحديدًا من قبل أطباء التوليد، ويفوق عدد الأطباء عدد القابلات اللواتي يقتصر نطاق ممارستهن القانونية على مساعدة الأطباء. كما تؤدّي خصخصة صحّة الأم، وسعي المستشفيات لتحقيق الربح، واستحداث معدّات تكنولوجية ومرافق جديدة مكلفة، إلى إجبار النساء على الولادة في المستشفيات، والحدّ من مشاركتهن في عملية إنجابهن. كما يتمّ إجراء ٤٠٪ من جميع الولادات في لبنان عن طريق العملية الجراحية القيصرية، وهو معدّل أعلى بكثير من الـ 15٪ التي أوصت بها منظمة الصحة العالمية [٣٥]. قد عانت اللاجئات السوريّات في لبنان من الإهمال، وتدنّي مستوى إدارة الألم، والعزلة، وسوء التواصل مع مقدّمي/ات الرعاية الصحية. وبينما يرفض أطباء التوليد الوقوف على الولادات الطبيعية المهبلية للنساء اللاجئات، بالرغم من الاطمئنان إلى أن المفوضية ستدفع أغلبية الفاتورة، فقد اشتكت العديد من النساء السوريات من إجبارهن على الولادة القيصرية من دون تأكيد ضرورتها طبياً [١٩]. هذا وتضع أهداف التنمية المستدامة قيمة عالية على مؤشّر وفيّات الأمّهات، فبالرغم من انخفاض المعدّل في لبنان حسب المعايير العالمية، لا زال يُعتبر عالياً نسبة إلى معدّل الأطباء لكل فرد وانتشار العديد من المستشفيات الخاصة [٣٥]. وتتردّد عديدات من النساء المهاجرات واللاجئات في الذهاب إلى المستشفيات، خوفاً من دفع تكاليف الاختبارات غير الضرورية وفاتورة المستشفى غير المعقولة، أو طرح السؤال حول الوضع القانوني لإقامتهن أو كفالتهن (في حالة عاملات المنازل المهاجرات). وقد تدفع هذه العوامل النساء الفقيرات والضعيفات إلى الإنجاب في المنزل. ومع تقييم معدّلات الوفيات النُفاسية من خلال سجلاّت المستشفيات لوفيّات الأمّهات، فمن الممكن أن لا يعكس المعدّل الوطني واقع النساء الفقيرات والضعيفات، اللواتي يتمّ دفعهن إلى الولادة في المنزل. وعلى الصعيد العالمي، أدّى إضفاء الطابع الطبّي على الإنجاب والولادة وديناميات القوة غير المتكافئة بين الأطباء ومرضاهم إلى تغريب النساء عن حملهن وتسخيف خياراتهن وقدراتهن على اتخاذ القرار.
الإجهاض ومنع الحمل
تدعم العدالة الإنجابية حقّ النساء في الاختيار، من النشاط الجنسي غير الإنجابي، ومنع الحمل، أو الإجهاض، أو متى يتم إنجاب الأطفال. لكن وسائل منع الحمل والتطوّرات الطبية في هذا المجال هي ذكورية في تركيزها على خصوبة المرأة، لأنّها تلوم النساء على الحمل غير المرغوب فيه وتعفي الرجال النمطيّين من أي مسؤولية. هذا وتعتبر الواقيات الذكرية والعمليّات الجراحية للرجال، التي تستخدم مرّة أو بشكل دائم على التوالي، الطرق الحديثة الوحيدة الفعّالة التي يتمّ تقديمها للرجال، بينما يُعتبر استئصال الأسهر مقلّلًا من الرجولة في ظلّ النظام الأبوي. وبالرغم من تجريمها سابقاً من قبل قوانين العقوبات الفرنسية الاستعمارية [٣٦]، فإنّ وسائل منع الحمل اليوم هي في الغالب غير مثيرة للجدل. وعلى عكس وسائل منع الحمل، فإنّ الإجهاض في لبنان يجرّم النساء وأيّ شخص يساعدهن أو يقدّم لهن هذه الخدمة، إلّا عندما يكون الإجهاض ضروريًا لإنقاذ حياة المرأة [٣٧]. وبالرغم من أنّ الدولة لا تقوم بتنفيذ القوانين الجنائية الصارمة التي تحيط بالإجهاض، فإنّ هذا لا يعني سهولة العثور على من يمكنه/ا إجراء هذه العملية. كما أنّ هناك افتراض أن النساء الحوامل خارج رباط الزوجية بحاجة إلى الإجهاض للحفاظ على شرفهن وعدم جلب العار لعائلتهن. هذا ويستغل العديد من الأطباء يأسهن من خلال وضع سعر مرتفع على عمليّات الإجهاض الجراحية، والتقليل من فعالية وأمان استخدام حبوب الإجهاض الدوائي [٣٨]. وفي العام ٢٠١٣، عمّمت نقابة الصيادلة في لبنان على جميع الصيدليات ضرورة طلب وصفة للسيتوتيك (المسهّل للإجهاض) وفحصها والاحتفاظ بها [٣٩]. قبل ذلك، كان الحصول على أدوية الإجهاض أسهل بكثير. ومع القيود المفروضة على الوصول إلى خدمات الإجهاض التي تعوق الاستقلالية الجسدية، تُرغم العديدات من النساء على الأمومة الإجبارية.
فحص وعلاج الأمراض المتناقلة جنسيًا
بالرغم من ارتباطه بشكل خاطئ بالوصمة بدلاً من الرعاية الذاتية، فإنّ فحص ومعالجة الأمراض المتناقلة عن طريق الاتصال الجنسي هي مكوّنات رئيسية للحقوق الصحّية والجنسية. فغالبًا ما تُعتبر هذه الأمراض كعواقب للسلوك المتهوّر وغير الأخلاقي، مثل الزنا وتعدّد الشركاء الجنسيين والأنشطة الجنسية خارج أطر الزواج. وفي لبنان، يفرض القانون على جميع الراغبين/ات بالزواج القيام بمجموعة من الفحوصات المخبرية، بما فيها تلك المتعلّقة بالأمراض المتناقلة جنسيًأ. وتكمن أهمية هذه الفحوصات الإلزامية في معرفة الطرفين ما ينتظرهما، بافتراض أنّ نتائج الفحوصات هذه لا يمكن أن تتغيّر بعد الزواج. وإذا تمّ تشخيص الإصابة بالعدوى المنقولة جنسياً، يمكن للزوج اتّهام زوجته بالزنا، ما يستدعي تدّخل الدولة ومن ثمّ سجنها [٣٠]. وتعاني النساء المسجونات من اضطرابات شديدة في الرعاية الصحية الإنجابية والجنسية بسبب عدم توافر أطبّاء أمراض النساء وعدم وجود فوط صحية [٤٠]، وإمكانية التعرّض للإيذاء الجسدي والجنسي [٤١].
ويأتي الخوف من الوصم والتعرّض لمعاملة سلبية من قبل الشركاء الحميمين أو الأصدقاء أو الأسرة أو مقدّمي/ات الرعاية الصحّية ليعيق رعاية الأشخاص لأجسادهم. ومن الأرجح أن تكون بعض الأمراض المنقولة جنسيًأ عند النساء غير عرضية، وقد يساعد الفحص الروتيني في الكشف المبكر والعلاج والوقاية من المضاعفات (مثل العقم أو مرض التهاب الحوض)، التي تنشأ من تركها دون علاج لمدة طويلة. لكن، خطط التأمين الصحّي في لبنان تلتزم بالقيم الأبوية، وتعاقب النساء الناشطات جنسيًا وغير المتزوّجات برفض تغطية تكاليف ولادتهن أو رعايتهن الصحّية الجنسية. وبما أن الفحص غير المغطّى غالي الثمن، فإنّ الأشخاص غير المتزوجين/ات الذين يظهرون أعراض العدوى المنقولة بالاتصال الجنسي غالباً ما يذهبون إلى الصيادلة للاستحصال على المضادّات الحيوية التي لا تستلزم وصفة طبية.
ونظراً للمخاطر المهنية، ينبغي دعم العاملات في مجال الجنس ومنحهن الحقّ في الصحّة والسلامة الجسدية والعاطفية من قبل الدولة. ويجب جعل الفحوصات واللقاحات والعلاجات ووسائل منع الحمل مجانية، كي تتمكنّ من حماية أنفسهن من زبائنهن. وغالباً ما يقوم خطاب التفوّق الأخلاقي ووصم العاملات في مجال الجنس باعتبار ضعف صحتهن كنتيجة لما يفعلنه. وفي لبنان، تواجه العاملات في مجال الجنس تهديدًأ دائمًا بالاعتقال من جانب الشرطة لممارستهن العمل الجنسي دون الحصول على تصريح عمل رسمي في بيت دعارة مسجّل [٣٣] – وهي تصاريح لم تصدر منذ الحرب الأهلية اللبنانية [٣٣]. وخوفاً من السجن والترحيل، تواجه العاملات في مجال الجنس من غير المواطنات درجة عالية من الهشاشة بسبب عدم قدرتهن على الادعاء ضدّ الزبائن الذين يعتدون عليهن جنسياً أو يرفضون ارتداء الواقي الذكري.
التبني والتقنيات الإنجابية المساعدة
يُعتبر استبعاد النساء الفقيرات و/أو غير المتزوّجات من برامج رعاية ورفاه الأطفال التي تدعمها الدولة، أحد الأسباب العديدة المحتملة التي تجعل النساء يضعن أطفالهن للتبني. وتساهم الظروف الاقتصادية القاسية في الاضطهاد الإنجابي، حيث أنّها تجبر النساء على الاختيار بين عيشهن وأطفالهن البيولوجيين. ويؤدّي الاضطهاد الإنجابي لحالات الحمل الناجمة عن العنف الجنسي و/أو عدم القدرة على الحصول على خدمات الإجهاض الآمنة في الوقت المناسب إلى مزيد من الإجحاف، حيث تضطر النساء إلى استكمال الحمل والتخلّي عن الأطفال بعد ذلك. ويُعتبر فصل مسألة الأبوة والأمومة عن التكاثر البيولوجي أمراً ضروريًا لتزويد الأطفال والآباء والأمّهات بإمكانيّات متنوّعة لبناء واستدامة الأسر (٤٢). لكن مسارات التبنّي في لبنان، مثل معظم الأمور الأخرى المتعلّقة بسجلّات الأحوال الشخصية، تخضع لسلطة الدين وليس للدولة. وفي حين لا يسمح الفقه الإسلامي بالتبنّي الكامل، فإنّ المسيحية تفعل ذلك من خلال عدد من الشروط التي تضعها الكنيسة.
لكن التبنّي والتقنيات الإنجابية المساعدة هي إمكانيّات يمكن اعتمادها، لأنها توفّر القدرة على تخطّي المتطلبات البيولوجية للأمومة للنساء غير الراغبات في الولادة أو اللواتي تخطّين سن الإنجاب أو العقيمات أو ذوات الشركاء العقيمين أو المصابات بأمراض مزمنة تمنع الحمل، وغيرهن. وإلى جانب الخدمات الجنسية والإرضاع من الثدي، فإنّ الأمومة البديلة من خلال التقنيّات الإنجابية المساعدة مكّنت النساء أيضًا من إضفاء قيمة مالية على أعمال هي عادة من دون مقابل ووضعها في سياق التبادل الاقتصادي. ففي البلدان التي يتمّ فيها تنظيم الأمومة البديلة قانونياً، يحقّ للأمّهات البديلات الحصول على تعويض عن معظم جوانب حياتهن، ما يجعل الأمر جذّاباً بالنسبة للنساء اللواتي يكافحن مالياً [٤٢]. من ناحية أخرى، فإن التقنيات الإنجابية المساعدة تعزّز اللامساواة نتيجة التكلفة الباهظة لهذه التقنيّات التي لا يمكن سوى للأغنياء الوصول إليها [٤٣]. وقد كشفت مناقشة غير رسمية مع اختصاصي خصوبة في لبنان أن التقنيّات الإنجابية المساعدة تُستخدم بشكل استغلالي من قبل نساء لبنانيات ثريّات، اللواتي تجلبن عاملات المنازل الوافدات المهاجرات تحت رعايتهن كأمّهات بديلات. وليس من الواضح مدى قبول عاملات المنازل المهاجرات هذه الإجراءات، ولكن بالنظر إلى كيفية تمكين نظام الكفالة للديناميات المسيئة، يطرح هذا المستوى الجديد من التبادل أسئلة خطيرة حول العدالة الإنجابية لعاملات المنازل المهاجرات. تعالج العدالة الإنجابية الاستغلال والتفاوت الاجتماعي-الاقتصادي لجهة الوصول إلى التقنيّات الإنجابية المساعدة، مع الاعتراف في الوقت ذاته بفوائد وجود تقنيّات تساعد في الحقّ في تكوين عائلات دون الاضطرار إلى التوافق مع الزيجات الغيرية التقليدية أو التكاثر البيولوجي [٤٣].
5. الجنسية وهويّات النوع الاجتماعي/الجندر
يُعتبر رفض الميول الجنسية غير النمطية مسألة جوهرية بالنسبة للممارسة الأبوية. حيث ترتكز الرأسمالية ومؤسسة الزواج على العمل المنزلي غير المأجور لربّات المنازل والزوجات. فتقوم هذه المؤسّسة بتثبيت الرجال على رأس الأسر، وتضمن لهم، قانونيًا، أجورًا أعلى وإمكانية تسلّق مهني أسرع وأرفع شأنًا ووراثة أكبر من تلك التي تحظى بها النساء، وتضمن استمرار أسماء عائلاتهم وفروعها التي تبتلع النساء وتعيش أكثر منهن. ويؤدّي محو رغبات وحميمية النساء الكويريّات والتعميم الثقافي والقانوني للرغبة الغيرية على الرجال اللبنانيين إلى تذكير النساء الكويريات بأن الغيرية هي الخيار الوحيد المقبول لتشكيل العائلة. وبالتالي، نادرًا ما يتمّ الحديث عن الحقّ في العائلة عند التطرّق للقضايا المتعلّقة بالكويرية والعبور الجنسي، بالمقارنة مع خطاب الحقّ في الوجود من دون التعرّض للأذى والذي يأخذ الأولوية في لبنان. لكن القضيّتان مترابطتان: فعند الحديث عن الحقّ بالعيش من دون التعرّض للاعتقال، علينا إدراج النقاشات حول الحقّ في العائلة والصحّة الإنجابية والجنسية، بغضّ النظر عن نوع أو شكل الأسرة. فعلى الدولة الامتناع عن فرض نوع واحد من الشراكة والرغبة والحميمية، كما يجب عدم فرض الزواج، المؤطّر بالقانون والدين، على أيّ شخص، كويري/ة أو غير كويري/ة، كمؤسسة وحيدة للنسب.
يُفرض على العابرين/ات الراغبين/ات بتغيير جنسهم/ن في وثيقة الهوية اللبنانية الخضوع للإجراءات الهرمونية والجراحية، والذي يؤدّي حكمًا إلى العقم، كي ترضى المحاكم بمظهرهن/م الخارجي وتحكم بأن جنسهم/ن مطابق لما يدّعون/تدّعين. وفي الحالات القليلة حيث حكم القضاء لصالح تغيير خانة الجنس، قام بذلك تحت ذريعة "تصحيح" خطأ إداري في الهوية الأصلية [٤٤]. ولا يوجد اعتراف بأن المدّعي/ة عابر/ة، بالرغم من توفّر سجلّات الصحّة النفسية، التي تقتضيها الدعوى، والتي تشخّص "اضطراب الهوية الجندرية"، والذي يسمّى اليوم بالانزعاج الجندري gender dysphoria. أما العابرين/ات الخاضعين/ات لعلاجات تأكيد النوع الاجتماعي/الجندر فيواجهون/ن أجهزة الدولة الأمنية وصعوبات في الحصول على العمل بسبب التناقض بين بطاقة الهوية والمظهر الخارجي [٣٣]. فالتكاليف القانونية والطبية والنفسية والمعيشية لأشخاص يعانون مشاكل مادية هي رادع أساسي أمام صحتهم/ن ورفاهيتهم/ن. كما أن طبيعة الحياة الهشّة وانتشار رهاب العبور الجنسي يمنعان العابرين/ات من تحميل الأطبّاء مسؤولية العمليات الجراحية الفاشلة، ويحولان دون إعطاء العابرين/ات فرصة اقتراح تجميد البويضات أو السائل المنوي قبل العقم. وفي المقابل، يتوجّب على الأطبّاء اقتراح تقنيّات إنجابية تحفظ البويضات/المني، قبل القيام بإجراءات تؤدّي إلى العقم، عند معالجة الأشخاص ذوي/ات الهوية الجندرية النمطية [٤٥]. وفي الوقت ذاته، يواجه/تواجه العابرين/ات اضطهادًا تناسليًا بسبب اضطرارهم/ن على الاختيار بين بطاقة هوية تؤمّن الحماية القانونية-الاجتماعية وخصوبتهم/ن. وحتّى عند الاقتناع بالخيار الأوّل، يتمّ، بالفعل، رفض دعاوى العابرين/ات الآباء والأمهات، أو تركها معلّقة [٤٤]. أمّا العدالة الإنجابية فهي تقارب قضايا العابرين/ات والكويريين/ات من زاوية الحقّ في اختيار إنجاب الأطفال أم لا والقدرة على العيش مع عائلاتهم/ن من دون أذى أو اضطهاد.
6. النساء ذوات الإعاقة
تسبّب قابلية زواج البنات قلقًا للمجتمع الأبوي، وتلعب معايير الجمال السائدة دورًا هامًا في تعيير الفتيات والشابات بأجسادهن. حيث يتمّ تشكيل المرغوبية المقبولة وفقًا لمعايير الجمال المبنية على صورة المرأة الفاتحة البشرة/البيضاء والنحيفة وذات الهوية الجندرية النمطية والأنثوية والمغايرة الميول الجنسية والقادرة جسدياً. ففي صيف ٢٠١٨، قام رئيس نقابة أصحاب المطاعم، طوني الرامي، بتوبيخ وسائل الإعلام الاجتماعي على فضح المخالفات الصحية للمطاعم في لبنان باستخدام استعارة متقنة، حيث قارن بين عمل المطاعم وابنة افتراضية ذات إعاقة قائلاً: "أنا اذا بدي جوّز بنتي وبنتي عم تعرج بدعي العريس على العشا وبعرّفو عليها عالقاعد على الطاولة لربّما يصير نصيب بس اذا طلعتها عالبوديوم وصوّبت عليها البروجيكتورات وجبت أهل العريس يتفرّجوا عليها هيك ما بتمشي الأمور" [٤٦]. لكن هذا التعبير المجازي الذكوري والمتحيّز للقدرة لا يقتصر على الرامي. وفي حين انتقده/ته الناشطين/ات بشكل عام بسبب إساءته للأشخاص ذوي الإعاقة، لم يتمّ إبداء كثير من الاهتمام بالنسبة للإيحاء بأنّ النساء ذوات الإعاقة لسن جديرات بالزواج أو الحب أو الرغبة. حيث يتمّ اعتبار النساء ذوات الإعاقة غير قادرات على الامتثال لأدوارهن الجندرية، وبما أنّ عملهنّ المؤنث غير قابل للاستغلال، يصبحن عبئًا على العائلة، حيث تصبح فرصهن بالزواج نادرة. وتُمنع الكثيرات من النساء ذوات الإعاقة من مغادرة منازلهن، مما يحدّ كثيرًا من قدرتهن على الوصول لخدمات الصحّة الإنجابية والجنسية. علاوة على ذلك، يتعرّض حقّهن في الخصوصية للخطر، فعادة ما تكون زيارتهن لعاملي/ات الرعاية الصحية برفقة أوصياء قد يتّخذون/ن قرارات عنهن، حيث غالبًأ ما تتمّ معاملتهن كالأطفال وتلقينهن بما هو أفضل لهن.
7. العدالة البيئية
في العام ٢٠١٥، تمّ فضح عجز الدولة اللبنانية في إدارة النفايات، عندما احتجّ السكّان الذين يعيشون بالقرب من مكبّ نفايات الناعمة على عقد تجديد الموقع الذي تجاوز قدرة استيعابه. وبعد فترة وجيزة من امتلاء الشوارع بالقمامة، تظاهر الكثيرون احتجاجًا، ولكن لم يتمّ وضع خطّة ملائمة لإدارة النفايات. أمّا الحلول التي اعتمدتها الدولة اللبنانية، فهي تشكّل خطرًا خبيرًا على صحّة المجتمع ورفاهه، حيث قرّرت فتح مكبّات جديدة في مناطق فقيرة أخرى كمكبّ برج حمّود، وحرق النفايات في الهواء الطلق، ممّا يؤدّي إلى إطلاق جسيمات خطرة يمكن استنشاقها كمادّة الديوكسين وثنائي الفينيل متعدّد الكلور (PCB) المشابه للديوكسين. وقد اضطّر السكّان قرب مكبّ برج حمّود وغيره إلى مغادرة منازلهم للهروب من الملوّثات والدخان المنبعث من القمامة المحترقة. وقد عبّرت النساء عن الحاجة إلى تنظيف منازلهن أكثر من المعتاد للتخلّص من الرائحة الكريهة ورواسب القمامة المحترقة. واضطّر العديد من الناس إلى شراء أجهزة تنقية الهواء، حتّى لا يتعرّض الأطفال لمثل هذه السموم [٤٧]. كما أظهرت الدراسات أن المكبّات والدخان والغاز الناجمين عن المحارق تحتوي على مواد مسرطنة وغيرها من المواد الكيميائية الضارّة، التي تشكّل مخاطر صحّية جسيمة للأشخاص الذين يعيشون بالقرب من مواقع إدارة النفايات، من أمراض الجهاز التنفسي، إلى ارتفاع مخاطر الإصابة بالسرطان، والمشاكل التناسلية والنمائية، بالإضافة إلى الاضطرابات في نظم المناعة. أمّا الديوكسين، وهو أحد هذه المواد المسرطنة، فهو مادّة سامّة مرتبطة بالإجهاض التلقائي، والولادة المبكرة، والعقم، والعيوب الخلقية [٤٨]. ويقوم واضعو السياسات بتأطير الهواجس البيئية كمشاكل تتعلّق بالزيادة السكانية، بمعنى إلقاء اللوم على النساء الفقيرات واللاجئات المنجبات، في حين أن سوء الإدارة الصناعي والحكومي هو الذي يشكّل الضرر على مصادر المياه والتربة، ومنها على الغذاء.
وتشكّل البنية التحتية غير الملائمة وظروف السكن في المناطق المزدحمة، مثل ضواحي بيروت ومخيّمات اللاجئين والمستوطنات غير الرسمية، في حدّ ذاتها خطرًا على صحة السكّان. ويقوم التمييز الاجتماعي والاقتصادي ومضايقات الأجهزة الأمنية الرسمية بتقييد اللبنانيين الفقراء واللاجئين والمهاجرين ضمن المناطق المهدّدة بيئياً. وبينما تقوم الدولة باستهداف المناطق المفقرة، فهي تعرّض الأسر ذات الدخل المنخفض وغير القادرة على تحمّل تكاليف الانتقال والتي تشملها تغطية صحّية محدودة لأخطار صحّية كبيرة. وبالإضافة للضغوطات المادّية في الوظائف المدفوعة الأجر، يتضاعف الضغط على العمل المنزلي للنساء في محاولتهن الحفاظ على منازل خالية من السموم ورعاية الأطفال المرضى. ويمتد تسميم أجساد النساء، البيئة الأولى، إلى الأطفال خلال فترة الحمل ومن خلال حليب الأم. ويتأكّد ذلك أكثر في مناطق النزاع، حتى بعد انتهاء الحروب بوقت طويل، حيث تتلوّث المياه والتربة في المناطق الموبوءة بالمعادن الثقيلة أو الغازات السامة التي تسبّب السرطان والإجهاض والعقم والعيوب الخلقية ووفيّات الرضع [٤٩، ٥٠]. ففي أقل من ١٠ سنوات شهد مستشفى البصرة للولادة في العراق وحده تضاعفًا قدره ١٧ مرّة في العيوب الخلقية [٥٠]. من الضروري تعقّب الهواجس البيئية ونسبها إلى الجناة الرئيسيّين، بما في ذلك الصناعات والدول، فهي لا تسهم في أكبر كمية من الملوّثات وانبعاثات الغازات فحسب، بل إنّ سياسات الدولة تيسّر الأخطار البيئية أو تهملها. فحقّ كافّة النساء في حمل صحّي وتربية الأطفال في بيئة صحّية هو مبدأ أساسي في العدالة الإنجابية والعدالة البيئية كذلك.
بناء الحركة حول العدالة الإنجابية
إنّ إعطاء لمحة حول المدى الواسع للعدالة الإنجابية هو بالظبط ما تفعله هذه الورقة. فهناك العديد من الاضطهادات الإنجابية التي لم يتمّ التطرّق لها في الأقسام السابقة، وتظهر الحاجة إلى التعمّق أكثر في تلك المذكورة – من عدد المتعايشات مع فيروس نقص المناعة البشرية، مع النقص في الفحوصات والتقديرات، إلى مقاربة نظم الرعاية الصحّية العامة والخاصة للصحّة الجنسية والإنجابية، إلى فحوصات الأمراض المتناقلة جنسيًا، التي تفرضها الدولة على المساجين المثليين، والأزواج قبل الزواج، والعاملات المنزليات المهاجرات قبل التوظيف، والراقصات/الفنّانات الأجنبيات عند التقدّم لتأشيرة الدخول، وكل ٣ أشهر خلال إقامتهن. كما ترتبط العدالة البيئية بعلاقة عاملات المنازل المهاجرات مع العدالة الإنجابية، حيث تتعرّضن للسموم البيئية التي تؤثّر على صحّتهن الإنجابية، مثلاً استمرار التعّرض لمسبّبات الحساسية كالحيوانات الأليفة التي يعتنون بها، أو الفثالات (phthalates) وغيرها من السموم التي تستنشقها عادة العاملات المهاجرات الفيليبينيات في صالونات التجميل. وكذلك، فإنّ سوق تبنّي أو شراء الأطفال من لبنان إلى مناطق مختلفة من العالم تطرح سؤالًا خطيرًا حول دور الجيوسياسة والطائفية في غياب العدالة الإنجابية. فالاضطهاد الإنجابي الذي يواجه اللاجئات والنساء غير المتزوّجات ذوات الإقامة غير القانونية، يصدر من اللبنانيين الذكورالذين يمنعونهن من المغادرة بالترهيب بكشف وضع إقامتهن للسلطات المحلية، ما قد يؤدّي إلى ترحيلهن أو خطف أطفالهن (وضعهم تحت الوصاية). فمن الواضح أنّنا لا نهدف إلى تغطية كل هذه القضايا بعمقها واتساعها.
يغطّي إطار العدالة الإنجابية مجالاً واسعاً. تخيّلي مدى العنف العاطفي والأمراض العقلية التي تحلّ باللاجئات والمهاجرات واللبنانيات والكويريّات وذوات الإعاقة والفقيرات والعابرات جرّاء الاعتداءات اليومية على أجسادهن واستقلاليتهن الإنجابية وقدرتهن الذاتية على التصرّف في نظام يفقرهن ويعرّضهن وعائلاتهن للأمراض عمليًأ. هناك سكّان يُمنعون من النمّو والصحّة والحميمية والأمن المالي والسلامة بشكل منظّم، وذلك باسم "التوازن الطائفي"، "حق العودة"، الوطنية، الكفالة، الأخلاق، الحرب، والتنمية الصناعية. فالسياسي ذاته الذي مارس الضغط لمنع المرأة اللبنانية من إعطاء الجنسية [١٥]، قام بدعوة الملايين من غير المواطنين/ات المنتمين/يات إلى الدين "الصحيح" للحصول على جنسية كاملة [١٦]، وقد صرّح بلا خجل أنّ على النساء اللبنانيات تغيير رغبتهن إذا أردن تمرير جنسيّتهن لأولادهن – وهو حقّ تتمتّع به نظيراتهن غير المتزوجات بشكل "غير شرعي" [١٥]. لكن يفرض قطاع الصناعة الصحّية على الأمّهات العازبات ذاتهن الإنجاب في المستشفى، تحت رعاية طبيب توليد وعليهن دفع التكلفة من جيوبهن لأنّ التأمين الصحّي يعاقب اللواتي يخرقن مدونة السلوك الأبوية-الغيرية.
إن الترابط بين هذه الصراعات ليس وليد الصدفة، فهذا هو تعريف النظامية، فالهياكل القمعية تتقاطع مع بعضها البعض وهكذا هو نضالنا ضدّها. إنّ انقسام العمل في الصوامع وتبسيط القضايا هو ما يعيق جزئيًا التقدّم والتعبئة، فما نواجهه ليس بسيطًا، وتحديد مدى تعقيداته وارتباطاته يظهر حجم ما نحن بصدده. نحن نرى أنّ تبنّي إطار العدالة الإنجابية في نضالاتنا سيسهم في إعادة ربطها، بسبب تمزيقها المستمر، وسيعطينا فرصة قتالية أفضل.
تخيّلت سسترسونغ أنّ صدى العدالة الإنجابية قد لا يتردد خارج نطاق الولايات المتحدة، لكن هذا الإطار يَعد بإعادة تنظيم خطاباتنا وربطها ببعضها البعض. قد لا نرى بنى قمعية أمام العدالة في زماننا هذا، ولكن، على أقلّ تقدير، سيسمح لنا بناء حركة حول العدالة الإنجابية بممارسة رؤيتنا للعدالة بطريقة متبادلة وغير مألوفة، وهي لا تحتاج إلى شرعية أو قبول من الدولة. وهذه دعوة في سبيل إنشاء حركة عدالة إنجابية محليًا، ثمّ إقليميًا، على أمل أن نصل إلى أوجه تضامن بين الجنوب والجنوب.
المراجع:
[1] Sebring S. Reproductive citizenship: women of color and coercive sterilization in North Carolina 1950–1980 [dissertation]. Ann Arbor: Duke University; 2012.
[2] Ross LJ. Understanding reproductive justice. Atlanta: SisterSong Women of Color Reproductive Health Collective; 2006 May.
[3] SisterSong Women of Color Reproductive Justice Collective. About us [internet]. Atlanta: Sistersong.net; [date unknown] [cited 2018 Sep 20]. Available from: https://www.sistersong.net/mission/
[4] Forward Together. What is reproductive justice? [internet]. Oakland: Forwardtogether.org; [date unknown] [cited 2018 Sep 20]. Available from: https://forwardtogether.org/what-is-reproductive-justice/
[5] Burke R. Decolonization and the evolution of international human rights. Pennsylvania: University of Pennsylvania Press; 2010.
[6] Crystal J. The human rights movement in the Arab world. Hum Rights Q. 1994; 16(3):435-54.
[7] Lebanese University. Faculty of Law and Political and Administrative Sciences [internet]. Lebanon: Ul.lb.edu; c2018 [cited 2018 Oct 3]. Available from: https://www.ul.edu.lb/faculte/department.aspx?facultyId=4&departmentId=2...
[8] Lebanese University. كلية الحقوق والعلوم السياسية والإدارية [internet]. [Faculty of Law and Political and Administrative Sciences]. Lebanon: Ul.lb.edu; c2018 [cited 2018 Oct 3]. [Arabic] Available from: https://www.ul.edu.lb/faculte/department.aspx?facultyId=4&departmentId=2...
[9] World Health Organization. Reproductive health in the Western Pacific [internet]. Geneva: Who.int; c2018 [cited 2018 Oct 2]. Available from: http://www.who.int/westernpacific/health-topics/reproductive-health
[10] World Health Organization. Safe abortion: technical and policy guidance for health systems. Geneva: World Health Organization; 2003.
[11] World Health Organization. Safe abortion: technical and policy guidance for health systems 2nd ed. Geneva: World Health Organization; 2012.
[12] Abou Habib L. The ‘right to have rights’: active citizenship and gendered social entitlements in Egypt, Lebanon, and Palestine. Gend and Dev. 2011; 19(3):441-54.
[13] Human Rights Watch. Lebanon: discriminatory nationality law. Human Rights Watch [internet]. 2018 Oct 3 [cited 2018 Oct 22]; News: [about 19 screens]. Available from: https://www.hrw.org/news/2018/10/03/lebanon-discriminatory-nationality-…
[14] Van Waas L, AlBarazi Z, editors. Nationality and cases of statelessness in the Middle East and North Africa. Beirut: The Legal Agenda; 2016.
[15] Al Tayyar. باسيل أعلن تقدمه للحكومة بمشروع قانون يجيز للمرأة اللبنانية المتزوجة من غير لبناني حق منحها الجنسية لأولادها باستثناء دول الجوار . [Bassil announced presenting the government with a proposed law that allows Lebanese women married to non-Lebanese the right to pass on their nationality to their children with the exception of neighboring countries]. Al Tayyar [internet]. 2018 Mar 21 [cited 2018 Oct 18]; News: [about 13 screens]. [Arabic]. Available from: https://bit.ly/2BxTsBJ
[16] Azar G. FM Bassil calls for citizenship to those of Lebanese descent. Annahar [internet]. 2016 Aug 24 [cited 2018 Oct 19]; Lebanon: [3 screens]. Available from: https://en.annahar.com/article/453962-fm-bassil-calls-for-citizenship-to...
[17] Suvada J, Dibusova L, Mihalik J, Akol Z, Marcin M, Bachir E, et al. 1046 Neglected populations of cancer patients -migrants and refugees [poster abstract]. Eur J Cancer. 2015; 51:S160-1
[18] Mansour A, Al-Omari A, Sultan I. Burden of cancer among Syrian refugees in Jordan. J Glob Oncol. 2018; 4(4):1-6.
[19] Yasmine R, Moughalian C. Systemic violence against Syrian refugee women and the myth of effective intrapersonal interventions. Reprod Health Matters. 2016; 24(47):27-35.
[20] Al-Nashef N, El-Khoury S. Palestinian employment in Lebanon - facts and challenges: labour force survey among Palestinian refugees living in camps and gatherings in Lebanon. Lebanon: International Labor Organization [internet]; 2014. Available from: http://www.ilo.org/wcmsp5/groups/public/---arabstates/---ro-beirut/docum...
[21] AlGhusain E. الكشف عن سرطان الثدي للفلسطينيّات: مبادرات فرديّة بديلاً من تقشّف «الأونروا» والدولة. [Early detection of breast cancer for Palestinian women: individual initiatives substituting the austerity conditions of UNRWA and the state]. Al Akhbar [internet]. 2018 Oct 18 [cited 2018 Oct 20]; Social: [3 screens]. [Arabic]. Available from: https://bit.ly/2GgzvVh
[22] Seita A, Goldsmith A, Hababeh M, Shahin Y. Amid US funding cuts, UNRWA appeals for health and dignity of Palestinian refugees. The Lancet. 2018; 391(10118):294-95.
[23] Fernandez B. Health inequities faced by Ethiopian migrant domestic workers in Lebanon. Health Place. 2018; 50:154-61.
[24] Su A. Slave labour? Death rate doubles for migrant domestic workers in Lebanon. IRIN [internet]. 2017 May 15 [cited 2018 Oct 3]; Migration: [8 screens]. Available from: https://www.irinnews.org/feature/2017/05/15/slave-labour-death-rate-doub...
[25] Kontos M, Bonifacio G. Introduction: domestic and care work of migrant women and the right to family life. In: Kontos M, Bonifacio G, eds. Migrant Domestic Workers and Family Life. London: Palgrave Macmillan; 2015.
[26] Wansa S. أتعهد أنه ليس لعاملتي أي علاقة زواج أو ارتباط من أي نوع في لبنان. [I pledge that my migrant domestic worker does not have any marital relations or intimate ties of any kind in Lebanon]. The Legal Agenda [internet]. 2015 May 11 [cited 2018 Oct 19]; Articles: [2 screens]. [Arabic]. Available from: http://legal-agenda.com/article.php?id=1098
[27] Bou Moussa G. فيديو يوثق حالة العاملة الاثيوبية قبل وفاتها في النبطية يثير الشبهات و الطبيب الشرعي لم يصدر بعد [reportage]. . AlJadeed [internet]. 2018 Aug 23 [cited Oct 27]; News Reports: [1 screen]. 3 mins. [Arabic]. Available from:
https://www.aljadeed.tv/arabic/news/news-reports/230820185?fbclid=IwAR1x...
[28] Madhok S, Unnithan M, Heitmeyer C. On reproductive justice: ‘domestic violence’, rights and the law in India. Cult. Health Sex. 2014; 16(10):1231-44.
[29] Human Rights Watch. Lebanon: domestic violence law good, but incomplete. Human Rights Watch [internet]. 2014 Apr 3 [cited 2018 Oct 4]; News: [7 screens]. Available from: https://www.hrw.org/news/2014/04/03/lebanon-domestic-violence-law-good-i...
[30] Human Rights Watch. Unequal and unprotected: women’s rights under Lebanese personal status laws. Human Rights Watch [internet]. 2015 Jan 19 [cited 2018 Oct 6]; Reports: [about 120 screens]. Available from: https://www.hrw.org/report/2015/01/19/unequal-and-unprotected/womens-rig...
[31] Human Rights Watch. Lebanon: reform rape laws. Human Rights Watch [internet]. 2016 Dec 19 [cited 2018 Oct 6]; News: [6 screens]. Available from: https://www.hrw.org/news/2016/12/19/lebanon-reform-rape-laws
[32] Rollè L, Giardina G, Caldarera AM, Gerino E, Brustia P. When intimate partner violence meets same sex couples: a review of same sex intimate partner violence. Front Psychol. 2018; 9.
[33] Saleh A, Qubaia A. Transwomen’s navigation of arrest and detention in Beirut: a case study. Civ Society Rev. 2015; (1):109-119.
[34] Human Rights Watch. Dignity debased: forced anal examinations in homosexuality prosecutions. Human Rights Watch [internet]. 2016 Jul 12 [cited 2018 Oct 20]; Reports: [86 screens]. Available from: https://www.hrw.org/report/2016/07/12/dignity-debased/forced-anal-examin...
[35] DeJong J, Akik C, El Kak F, Osman H, El-Jardali, F. The safety and quality of childbirth in the context of health systems: mapping maternal health provision in Lebanon. Midwifery. 2010; 26:549-57.
[36] Article 537 and 538. قانون العقوبات [internet]. [Lebanese Penal Code]. Legislative decree no.340; 1943 [cited 2018 Oct 20]. [Arabic]. Available from: https://sherloc.unodc.org/res/cld/document/lebanon-penal-code_html/Leban...
[37] Articles 539-546. قانون العقوبات [internet]. [Lebanese Penal Code]. Legislative decree no.340; 1943 [cited 2018 Oct 20]. [Arabic]. Available from:
https://sherloc.unodc.org/res/cld/document/lebanon-penal-code_html/Leban...
[38] Kaddour A, Alameh H, Melekian K, El Shareef M. Abortion in Lebanon: Practice and Legality? Al-Raida. Fall 2002/2003; XX(99):55-8.
[39] Order of Pharmacists of Lebanon. تعميم رقم ٧: توخي الحذر في صرف أي دواء دون التأكد من وجود وصفة طبية. [Circular memo no.7: Pay attention to dispensing any drug without checking for a medical prescription]. Order of Pharmacists of Lebanon [internet]. 2013 Feb 28 [cited 2018 Oct 20]. [Arabic]. Available from: http://www.opl.org.lb/newdesign/circulaires.php
[40] AlKantar B. Lebanon: women’s prisons are worse. Al-Akhbar [internet]. 2013 Sep 12 [cited 2018 Oct 13]; culture and society: [2 screens]. Available from: https://english.al-akhbar.com/node/17007
[41] Human Rights Watch. “It’s part of the job”: ill-treatment and torture of vulnerable groups in Lebanese police stations. Human Rights Watch [internet]. 2013 Jun 26 [cited 2018 Oct 20]; Reports: [70 screens]. Available from: https://www.hrw.org/report/2013/06/26/its-part-job/ill-treatment-and-tor...
[42] Jesudason S, Kimport K. Decentering the individual and centering community: using a reproductive justice methodology to examine the uses of reprogenetics. Front J Women Stud. 2013; 34(3):213-25.
[43] Briggs L, Ginsburg F, Gutiérrez ER, Petchesky R, Rapp R, Smith A, Takeshita C. Roundtable: reproductive technologies and reproductive justice. Front J Women Stud. 2013; 34(3):102-25.
[44] Makhlouf Y. قضاة الأساس يجتهدون: لمتخالطي الجنس: أن يصححوا قيد جنسهم في سجلات النفوس. [Judges set a precedent: Transexuals: May they correct their at-birth registered sex in personal status records]. The Legal Agenda [internet]. 2011 Sep 26 [cited 2018 Oct 27]; Articles: [6 screens]. [Arabic]. Available from: http://www.legal-agenda.com/article.php?id=30&lang=ar#.UwybIfSSxn0
[45] Nixon L. The right to (trans)parent: a reproductive justice approach to reproductive rights, fertility, and family-building issues facing transgender people. Wm & Mary J Women & the L. 2013; 20(1):73-103.
[46] Qasqas O. نقابي لبناني يهين ذوي الاحتياجات الخاصة... وناشطون يردون. [A Lebanese unionist degrades those with special needs… and activists respond]. Al-Araby Al-Jadeed. 2018 Jul 14 [cited 2018 Oct 22]; tweets: [2 screens]. [Arabic]. Available from: https://bit.ly/2Qzm3kq
[47] Human Rights Watch. “As if you’re inhaling your death”: the health risks of burning waste in Lebanon. Human Rights Watch [internet]. 2017 Dec 1 [cited 2018 Oct 22]; Reports: [67 screens]. Available from: https://www.hrw.org/report/2017/12/01/if-youre-inhaling-your-death/healt...
[48] Tsukimori K, Tokunaga S, Shibata S, Uchi H, Nakayama D, Ishimaru T, Nakano H, Wake N, Yoshimura T, Furue M. Long-term effects of polychlorinated biphenyls and dioxins on pregnancy outcomes in women affected by the Yusho incident. Environ health perspect. 2008; 116(5):626-30.
[49] Busby C, Hamdan M, Ariabi E. Cancer, infant mortality and birth sex-ratio in Fallujah, Iraq 2005-2009. Int J Environ Res Public Health. 2010; 7(7):2828-37.
[50] Al-Sabbak M, Sadik Ali S, Savabi O, Savabi G, Dastgiri S, Savabieasfahani M. Metal contamination and the epidemic of congenital birth defects in Iraqi cities. Bull Environ Contam Toxicol. 2012; 89(5):937-44.