موقفنا من الصحة النفسية
ملاحظة حول المصطلحات: إنّ الأشخاص الذين يعانون من مرض نَفْسِي يشيرون إلى أنفسهم أحياناً كمرضى أو زبائن أو مستخدمي خدمة أو معانين أو ناجين. نحن نستخدم هذه المصطلحات بشكل متبادل على الرغم من وعينا وإدراكنا لبعض الأسباب التي تستدعي رفضها. ونعترف بإشكالية مصطلح "المرض النفسي" نفسه ولكننا نعتمده في ظل غياب خيارات أفضل للإشارة إلى الحالات الوجوديّة هذه التي هي بلا شك موجودة بحد ذاتها كفئة، وإن لم تكن طبيّة بشكل حاسم.
نرى في مشروع الألف أن العبء الناتج عن المرض النفسي هو أحد الأعباء الأكثر انتشاراً في عصرنا وأن المعاناة الناتجة عنه هي بذاتها كبيرة ولا يمكن قياسها، فيأتي الوصم الإجتماعي الذي يحيط بها ويزيد من وطأتها. وما يزيد المعاناة حدة أيضاً هي الإنتهاكات التي تقع على حقوق المرضى وغياب هيكلية رسمية لمساءلة ومحاسبة مقدمي الرعاية الصحية النفسيّة من أطبّاء مختصّين ونفسانيين، واستغلالهم الواضح لموقعهم وسلطتهم على مرضاهم وزبائنهم.
في الوقت عينه ننتقد بشدة قطاع الصحة النفسية الذي يضم شركات الأدوية والأطباء النفسيّين وعلماء النفس والباحثين في هذا المجال وغيرهم، كونه يملك ويستفيد من القدرة على تعريف السلوكيات المَرَضيّة (وأغلبيتها سلوكيات غير نمطية في المجتمع) وتفريقها عن السلوكيات الصحية (وأغلبيتها سلوكيات سائدة أي تلك المليقة بالمجتمع الذكوري والمُنتِج)، وتشخيص الأفراد وفقاً لهذه المقاربة السياسية الاجتماعية بدلاً من اعتماد مقاربة علمية.
إن التشخيصات مثل الهستيريا (المصطلح المستخدم اليوم هو اضطراب الشخصية التمثيلي) والمثلية الجنسيّة (التي تمّ إزالتها عن لائحة الأمراض النفسية سنة 1973 )، واضطراب الهوية الجندرية (الذي تمّ استبداله بمصطلح "عدم الرضا من الجندر الاجتماعي" عام 2013)، وانفصام الشخصية وغيرها، استخدمت ولا تزال تستخدم كأدوات إخضاع واضطهاد للنساء والمثليين، والأشخاص الذين لا يتقيدون بالنوع الاجتماعي، والمجتمعات المهمّشة، والأفراد الذين يتحدّون الهيكليّة المعياريّة للعائلة والمجتمع والدولة.
لقد تمّ إثبات، وبشكل متكرّر، مدى انحياز القطاع الطبي إلى تشخيص أفراد ينتمون الى فئات مضطهدة بسبب الجندر أو العرق أو الطبقة بأمراض معينة، وذلك يُظهر، على أقل تقدير، الطابع غير الموضوعي لهذا القطاع الذي يسوّق نفسه على أنه يعتمد مقاربة علميّة.
كما أننا ننتقد، بالقدر نفسه، أصحاب نظريات التآمر الذين ينكرون وجود جميع أنواع الأمراض النفسية، لا سيما أن البعض من هذه الأمراض هي أنماط من المعاناة العاطفية موثّقة وموجودة قبل ولادة قطاع الصحة النفسية والتشخيصات الصادرة عنه.
كذلك، نرفض النموذج البيولوجي الطبي التقييدي تجاه الصحة النفسيّة كونه لا يأخذ في عين الاعتبار الطابع السياسي للمرض النفسي ويتعامل معه على أنه مشكلة بيولوجية مرتبطة بالفرد فقط. نعتبر أن العوامل الاجتماعيّة والإقتصاديّة والسياسيّة تساوي العوامل البيولوجيّة أهميّةً في تحديد أسباب الأمراض النفسيّة. بناء عليه، نرى أنّ أي مبادرة جدّية لتحسين وضع المعانين من الأمراض النفسيّة يجب أن تعطي أولويّة لمعالجة العوامل الاجتماعيّة والإقتصاديّة والسياسيّة المسببة للمرض النفسي، والتي يتجاهلها قطاع الصحة النفسيّة بكاملها حالياً.
تستحقّ الصحة النفسيّة اهتماماً أكثر مما تحصل عليه الآن، ولكن يجب أن يكون هذا الاهتمام مختلف جذرياً عما هو عليه اليوم. فالواقع اليوم هو أنّ مقدمي خدمات الصحة النفسية هم نفسهم الذين يعملون على النشاطات التوعوية حول قضايا الصحة النفسيّة ويصدرون أبحاثاً عنها ويساهمون بشكل أساسي في صياغة السياسة الوطنية حولها. وعلى افتراض حسن نية العاملين في هذا القطاع، فلا يزال هناك تضارب واضح في المصالح حيث أن الجهة التي تحثّ على العلاج هي نفسها الجهة المعالِجة، لا سيما في ظل وجود اتجاه عام، ضمن هذا القطاع، نحو وصف المزيد من العلاجات دون مراجعة نقدية لطبيعة ونوعية هذه العلاجات.
كما أننا نعتقد أنّ الجهود الحاليّة التي تصبو إلى تعزيز وتشجيع العلاجات (من أي نوع كانت) وتلك التي تعتمد شعار "مكافحة الوصمة"، تصرف الانتباه عن المشاكل الأكثر أهميّة والتي تتعلق بأساس قطاع الصحة النفسية، مثل اعتماد أدوات التشخيص المتوفرة التي هي سياسيّة بامتياز دون أي نقد أو مساءلة، وغياب كل من آليات محاسبة المهنيين في الصحة النفسيّة والحماية القانونيّة لحقوق واستقلاليّة المرضى النفسيين.