هل توجد حريّة تعبير مطلقة؟
النص الأصلي نشر هنا، كتابة كريس معراوي.
الترجمة لخلود فوّاز.
الرسمة لروجير معرواي
---
هل توجد حرية مطلقة للتعبير
حرية التعبير "هي حقك في إبداء آرائك والتعبير عنها بحرية دون تدخل من الدولة" وبشكل مجازي دون أي تدخل. لكن هل نحن أحرار حقا في التعبير عن أنفسنا؟
على الرغم من أن هذا هو الانطباع الذي تعطيه لنا الحكومات الغربية والحكومات "الديمقراطية" الأخرى، إلا أن هذا نادرا ما يعكس الواقع.
لا يقتصر التعبير على اللغة فحسب، بل يتعلق أيضًا بسلوك وأفكار الفرد. التعبير هو القدرة على ترجمة الأفكار والآراء إلى جمل (سواء مكتوبة و/ أو شفهية) والقدرة على ترجمتها من خلال اجسادنا (طريقة ارتداء الملابس و / أو الحركات البسيطة مثل المشي أو الرقص).
صحيح أن بعض المجتمعات تمنحك القدرة على انتقاد أشخاص معينين في موقع قوة، ولكن ما تفعله بجسدك وأفكارك يتم التحكم فيه دائمًا. قد لا يتم القاء القبض عليك، ولكن نظرة الأشخاص الآخرين دائمًا ما تكون موجودة، وتنتظرك لتنزل
"بالنسبة لسارتر، النظرة هي رقابة بالأساس"
الخطاب حول الألم والتعب: محدود ومقيّد
لا يمكن إنكار أن أجسادنا وخطابنا يخضعون لرقابة شديدة خاصة إذا لم يكن الجسم المعني هو "المسيطر" (المسيطر هو في الثقافة الغربية، الرجل الأبيض ذو الهوية الجندرية المعيارية). على سبيل المثال، سيتم الضغط على المرأة التي تصادف أنها حامل لتتصرف بسعادة وحماسة، ولن يُسمح لها ضمنيًا بالتعبير عن مخاوفها وشكوكها. تقع مراقبة الخطاب أولاً تحت سيطرة ذكورية تحدّ النساء بدورهن "الطبيعي" المفترض في كونهن أمهات. ولا تزال الأمومة في كثير من المجتمعات تعتبر الهدف الأساسي للمرأة؛ هدف ليس مقيدًا فحسب بل يُنظر إليه على أنه "مؤلم" بطبيعته. يتم تطبيع فكرة الألم وبالتالي يتم تجاهلها في معظم الأحيان. كما جاء في الإنجيل: "في الألم ستنجب الأطفال"، بالنسبة للبعض ينظر إليه على أنه محدد من قبل الله وبالتالي لا يتغير. على الرغم من أن العديد من التقنيات مثل أساليب ولادة القابلات والتقنيات التي طورتها الحكومة السوفيتية ("الطريقة غير الدوائية لتخفيف الآلام التي نشأت في الاتحاد السوفياتي وأصبحت معروفة جيدًا باسم طريقة لامازي (Lamaze) في الدول الغربية الناطقة بالإنجليزية") أثبتت فعاليتها وهي في كثير من الأحيان غير مؤلمة، ولكن لأسباب أبوية لا تزال الكثير من المجتمعات تصور الولادة على أنها "مؤلمة" طبيعيا. جزء كبير من هذا الألم هو نتيجة عدم سماع أصوات الحوامل وتركهن خارج عملية الولادة. في الواقع، تم تسليم الولادة إلى العلم والرجال، مهملين اصوات القابلات والنساء.
"مهدت سلسلة من الأحداث بين عامي ١٩١٠ و١٩٢٠ الطريق للأطباء لاغتصاب الدور التقليدي للقابلة وإرساء الأساس لنموذج طبي متجه صوب التعامل مع الولادة كمرض"
قام الأطباء بإبعاد المعرفة التقليدية والقابلات وفرضوا ما اعتقدوا أنه أفضل (مع الأخذ في الاعتبار أنه في ذلك الوقت كان الأطباء رجالًا معياريين)
هناك عدد لا يحصى من النساء اللاتي حاولن الإبلاغ عن الأطباء كارهي النساء والتدخلات الجراحية غير الضرورية المؤلمة (مثل "غرزة الزوج"). لكن كل هذا كان يتجاهل ضمنيًا وعلنيا، مما ترك أجيالًا من النساء والأشخاص غير النمطيين/غير النمطيات تتألمن/يتألمون.
لقد تم تطبيع فكرة الألم لدرجة أن الخطاب حوله يتم تشويهه: "لا بأس إذا تحملت القليل من الألم، فقد مررنا جميعًا به". يتم إضفاء الشرعية على الألم ويسكت النقاش حوله. طالما أنك تقدم/تقدمين المنتج النهائي (في هذه الحالة الطفل)، فإن المجتمع لا يحتاج إلى سماع الباقي. يخضع الخطاب حول الحمل غير السار والولادة وما بعد الحمل للرقابة، وفي أفضل الحالات يشعرون المتحدث/المتحدثة بالعار. إن خزي وانتقاد الاجساد التي ليست من الذكور المعياريين المغايرين جنسيا لتعبيرها عن آلامها أمر شائع في المجتمعات الأبوية. تعكس التسميات التي تطلق على النساء أو العابرين/العابرات الذين/اللواتي يميلون/يملن إلى التحدث عن آلامهم هذا الخزي والرقابة: "إنها هستيرية"، "إنها هرمونية"، "لديها كآبة ما بعد الولادة". يلام الألم على الجسد نفسه لأنه يُنظر إليه على أنه جسد "مكسور" أو "ضعيف" منذ البداية. تم انتقاد مهنة الطب عدة مرات لعدم الاكتراث لألم النساء والمجموعات المهمشة.
"هناك أيضًا دليل على أن النساء، ودون سبب طبي واضح، لا يحصلن على نفس العلاج مثل الرجال، وهي ظاهرة تثير مسألة التحيز الجندري".
على الرغم من أن المزيد والمزيد من النساء يعبرن الآن عن تجارب الولادة والحمل غير السارة من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، إلا أنهن لا يزلن أقلية.
هذا لا يعني أن الرجل المعياري المغاير يمكنه التحدث بحرية عن آلامه. من المؤكد أن الذكورة تلعب دورًا. بمعنى أن يُنظر إلى القوة على أنها سمة "ذكورية". ومع ذلك، من المهم أن نلاحظ أن المجتمع فرض علينا جميعا خطاب القوة والإيجابية. يُطلب من الناس تحمل آلامهم والمضي قدما. وإذا كنت بحاجة إلى علاج، يُسمح لك بالحصول عليه (إذا كان لديك المال والوقت) ولكن في النهاية يجب عليك الابتسام والمضي قدماً:
"مهما كان الموقف، ابقي الابتسامة على وجهك دائما"
لا تزال الرقابة على الأفراد ومشاعرهم وسلوكهم موجودة حتى في أكثر البلدان "ليبرالية". لنأخذ على سبيل المثال حالة شخص لديه أفكار انتحارية. سيكون هناك حتمًا رقابة على أفكار هذا الفرد وجسده. بمجرد أن يعبر الشخص عن أفكار انتحارية، تمارس مؤسسات مثل تلك الطبية والنفسية نوعًا من التحكم في جسد وأفكار الشخص المعني. في الدول الغربية، من المرجح أن يتم إدخال الشخص إلى المستشفى حيث سيتم تخديره ووضعه تحت المراقبة. قد تكون النية وراء هذا البروتوكول نبيلة، ومع ذلك، فإن البروتوكول نفسه أكثر من مريب، ليس فقط لأنه يطبق رقابة صارمة على الجسد ولكن أيضًا لأنه يظهر سيطرة إضافية على أفكار الأفراد. نعم، قد تضع الأفكار الانتحارية الشخص في وضعٍ مؤذٍ، ولكن المجتمعات تلعب دورًا نشطًا في منعك من التفكير بأي أفكار سلبية في المقام الأول. تحتاج المجتمعات الرأسمالية إلى اجساد "منتجة"، وإذا لم تتناسب مع هذا الوصف، فسيتم تصنيفك على أنك مريض. بمعنى آخر، يصنف على أنه شخص "مريض" أو "مكسور" يحتاج إلى بعض التعديل. في مجتمعات ما بعد الحداثة، السعادة هي العرف السائد. يحيط بنا المجتمع بصور أشخاص سعداء وأشخاص مسيطرين على حياتهم. اكتسب علم "علم النفس الإيجابي" الكثير من النفوذ والادعاءات بمساعدة الأفراد لاستعادة السيطرة على حياتهم. يتم تصوير السعادة كخيار فردي، وكأنه أمر أنت مسؤول عنه. لسوء الحظ، فإن الموضوع ليس بهذه البساطة؛ نحن نعيش في مجتمع يسيطر على أجسادنا ويحد من خياراتنا. رفاهنا مسؤولية اجتماعية، لا يحتاج فقط إلى ظروف اجتماعية واقتصادية متساوية لكي يحدث، ولكن أيضًا يجب أن يكون عبء العار والسيطرة على أفكارنا أقل تقييدًا. في الواقع، على الرغم من نداء المجتمع لخطاب "حر"، فإن الأشخاص الذين يميلون إلى الشكوى وغير المتفائلين يقابلون بالاستياء والتجاهل. إن التشهير بالناس لعدم رغبتهم في أن يتأطروا بتعريف المجتمع للسعادة أمر شائع وغالبًا ما يكون قاسيًا على الأفراد. لا يحدث التشهير فحسب، بل يسمح للناس بالتعبير عن أفكار مثل اليأس والإرهاق فقط في سياق طبي أو ضمن استشارة نفسية. تختزل مجتمعات ما بعد الحداثة العواطف إلى مسألة شخصية وخاصة، وكأنها أمر يجب مناقشته فقط في سياق محدد. من المتوقع أن تكون "ناضجًا عاطفيًا" في العمل وفي العلاقات. تتعلم أنه يجب عليك تنظيم مشاعرك والتعبير عن غضبك بطرق "مقبولة اجتماعيًا". ليس كل هذا سلبيًا، إلا أنه يحد من أسلوب التعبير لدينا ويقلل من تعبيرنا عن الغضب والإحباط والخوف الى عدد قليل جدًا من الأماكن الخاصة. سواء كان ذلك في استشارة طبيب أو استشارة نفسية، فهو مجال خاص حيث يكون التغيير المتوقع فرديًا وليس على المستوى الاجتماعي. يُتوقع منك "تغيير" بعض السلوكيات في حين أن ديناميكيات القوة غير المتوازنة في المجتمع يمكن أن تستمر دون التشكيك بها أو تغييرها.
استصلاح الفاشيين لحرية التعبير
إن حرية التعبير هي قضية اساسية ويدعي الكثيرون أنه يجب السماح لهم بالتعبير عن العنصرية والذكورية والهوموفوبيا وما إلى ذلك. ومع ذلك، فإنه نظام معقد لفهم كيف ومتى وأين نعبر عن أنفسنا. بالتأكيد يسمح لك أن يكون لديك أي مشاعر أو أفكار والتعبير عنها داخل نفسك ولكن ما يجب أن يسأل هنا هو كيف يمكن أن تؤثر هذه الفكرة على الآخرين؟ هل من الضروري أن أعبر عنها بصوت عال؟ في حالة الخطاب العنصري، لن يؤثر ذلك فقط على الآخرين بشكل سلبي، بل هي فكرة لن تخلق أي تقدم باستثناء إدامة نظام اللامساواة. بالإضافة إلى ذلك، يمكن التعبير عن الشعور بالغضب أو الإحباط بطرق أخرى ولذا من المهم للمجتمع ليس الاقتصار على تقدير خطاب متفائل و "إيجابي للحياة" ولكن أيضًا تشجيع خطاب الضعف والخوف والإحباط. هذا الخطاب مسموح به في مجتمعات ما بعد الحداثة فقط في حدود جلسات الارشاد ولكن بالتأكيد ليس داخل المجتمع ككل. وقد ظهر التأثير السلبي لهذه الرقابة على خطاباتنا من خلال الحملات الأخيرة التي قام بها الرئيس ترامب وغيره من السياسيين المحافظين والتي سمحت دون أي اعتدال بالخطاب العنصري والطبقي وكراهية المثليين والذكورية. أعطى هؤلاء السياسيون انطباعًا خاطئًا للمواطنين بأنه يُسمح لهم بالتحدث بحرية وكسر الخطابات "المقبولة اجتماعيًا". كما ذكرت جوديث بتلر:
"كثير من الناس متحمسون لهذا النوع من ممارسة السلطة ونوعيتها غير المقيدة، ويريدون في حياتهم الخاصة تحرير خطابهم وعملهم العدواني دون أي ضوابط: دون خجل، ودون تداعيات قانونية."
لتجنب الكلام الذي يحض على الكراهية، قد يكون من الضروري تحمل التعبير عن التواضع وعدم اليقين. غالبًا ما يُنظر إلى التواضع على أنه سلبي ويميل الناس إلى التطلّع إلى الأشخاص الصارمين بدلاً من ذلك. إنهم ينسون أن التواضع ايقان بأنه لا يوجد إنسان اعلى من الآخر، وبالتالي لن يضع الانسان المتواضع اللوم أو الكراهية على فئات معينة من الناس. لا يمكن للكلام المتواضع أن يكون كلامًا يحض على الكراهية. لسوء الحظ، في العديد من البلدان والمجتمعات خطاب الكراهية والعنف مقبول أكثر من خطاب الهشاشة والتواضع.
" يتم تعزيز بعض الروابط الاجتماعية من خلال العنف، وتميل إلى أن تكون روابط جماعية بما في ذلك القومية والعنصرية."
هناك ضغط لنتصرف بصلابة. لكن قبول خطاب الضعف يمكن أن يساعدنا على التخلص من خطابات الكراهية. لاناقض بعض علماء النفس، لا أعتقد أن الناس غير مؤهلين لمعرفة مخاوفهم والتعبير عنها بالطريقة الصحيحة، وأعتقد أن الضغط ليكونوا اقوياء يعوق الناس عن الاعتراف بمخاوفهم. لهذا يجب أن ننتبه دائمًا إلى أي نوع من الكلام يحصل على التقدير وأيهما لا.
حرية التعبير في عصر وسائل التواصل الاجتماعي
إضافة إلى ذلك، ظهر شكل جديد من الرقابة مع وصول وسائل التواصل الاجتماعي، وهي الرقابة على خيارات حياتنا وتعبيراتنا الجسدية. سيتم التحكم فيما تنشره على وسائل التواصل الاجتماعي ومراقبته ليس فقط من قبل المنصة نفسها ولكن أيضًا من قبل المستخدمين الآخرين. بالتأكيد، من الناحية النظرية، لدينا الحق في نشر ما نريد ولكن هل هذا هو الحال بالفعل؟
اولا، يجب عليك الامتثال للقواعد والانظمة التي تفرضها المنصة. بالتأكيد يتم وضع الكثير منها لمنع سلوكيات مثل التنمر والعنصرية والذكورية ورهاب المثلية وما إلى ذلك. ومع ذلك، فإن الكثير من هذه القواعد تتماشى أيضًا مع قيم المجتمع الأمريكي (مع الأخذ في الاعتبار أن غالبية شركات التكنولوجيا المؤثرة بدأت هناك) التي تحظر على سبيل المثال مجموعات معينة من خلال تصنيفها على أنها إرهابية. تعريفها معقد وقد يؤدي في كثير من الأحيان إلى التمييز العنصري. كما أنه يناسب اعتبار الجنسانية انها امر خاص ومخزي. تنطبق القواعد أيضًا بشكل مختلف عندما تكون رجلًا مقارنة بعندما تكون امرأة، نفس النظام الذي يتم فيه جنسنة أجساد النساء يعاد انتاجه عبر منصات وسائل التواصل الاجتماعي التي تسمح للرجل بسهولة أن ينشر صورة لحلمته ولكن إذا كانت للمرأة تعتبر تمامًا في غير محلها (بسبب جنسنتها) وبالتالي تتم إزالتها. لن أخوض في الكثير من التفاصيل المتعلقة بسياسات وسائل التواصل الاجتماعي لأنها موضوع تمت مناقشته عدة مرات سابقا. ومع ذلك، فإن المهم هنا أيضًا إلقاء الضوء على أعمال الرقابة التي يقوم بها المستخدمون الآخرون والتي ستخبرك ضمنيًا بما يمكنك أو لا يمكنك نشره. عادةً ما يعتمد ما يمكنك أو لا يمكنك نشره على قيم المجتمع الذي تعيش فيه (على الرغم من أن وسائل التواصل الاجتماعي تخلق الآن نوعًا من الثقافة العالمية). على سبيل المثال، إذا نشرت صورة لك في زواجك، يمكنك توقع حصولك على الحد الأقصى من الإعجابات، خاصة في الثقافات حيث يعتبر الزواج أحد أهم أهداف الحياة. إن الإعجابات التي نستخدمها أو نستقبلها تعمل كسلطة رقابية ستصفق لك أو تمنعك من النشر. يمكن للمستخدمين النشطين بسهولة أن يفهموا أي منشور أو صورة مقبولة اجتماعيًا وأيها غير مقبولة. لذلك يتم قياس هذا القبول الاجتماعي من خلال عدد الإعجابات أو المتابعين الذين تحصل عليهم مما سيحدد بشكل ضمني سلوكك على وسائل التواصل الاجتماعي. يستمتع الأشخاص أيضًا "بمراقبة" الآخرين عن طريق الإعجاب أو عدم الإعجاب بالصورة. إنه يعطي إحساسًا معينًا بالقوة من خلال القدرة على تحديد ما هو مقبول وما هو غير مقبول.
بالطبع، أعطت وسائل التواصل الاجتماعي إمكانية للفئات المهمشة أن يكون لهم قرار أو صوت، على سبيل المثال، استخدم العديد من الناشطين العابرين/العابرات إنستغرام ويوتيوب لعرض تجربتهم الشخصية. على الرغم من أنها تمكنهم/تمكنهنّ، إلا أن التنمر موجود دائما. لا يمكن تجاهل عدد الهجمات التي تتم عبر الإنترنت ضد الفئات المهمشة.
"واجه 41 في المئة من مستخدمي الإنترنت البالغين في الولايات المتحدة شخصياً شكلاً واحدًا على الأقل من أشكال إساءة الاستخدام الرقمي ... ومع ذلك، فإن هذه المخاطر واضحة بشكل خاص بالنسبة للسكان المعرضين اساسا لخطر التهميش في العالم المادي."
هنا مرة أخرى، نلاحظ أن الشرطة ليست بالضرورة الجسد المادي لأشخاص يرتدون الزي العسكري يسيرون في الشوارع، بل بالأحرى نظرات الآخرين الذين يتابعوننا دائمًا (عبر الإنترنت وفي الحياة اليومية).
الضوابط داخل مجال الازياء وخارجه:
إن نظرة الآخرين مخيفة لكثير من الناس خاصة عندما لا تكون تعبيراتك نمطية. لنأخذ على سبيل المثال شخصًا في قطار الأنفاق يرتدي بدلة سباحة. حتى لو سُمح لهذا الشخص بفعل ذلك، فإن نظرة الآخرين ستعاقبه بشكل غير مباشر لفعل ذلك عن طريق النظر والتحدث والإشارة. بالتأكيد قد لا يهتم هذا الشخص ويستأنف يومه، ولكن للأسف كثير منا يتأثر بهذه النظرة الخارجية. نحن مضغوطون/مضغوطات لنطابق ونعبّر بالطريقة التي تراها النظرة العامة صحيحة. إن تعبيراتنا الجسدية منظمة للغاية وهذا هو سبب وجود مجال الأزياء. يوفر مجال الازياء مساحة للناس للتعبير عبر الاختيار بين العديد من الملابس التي تعطي انطباعًا بالحرية بينما توفر لهم أيضًا سياقًا "آمنًا" يجعل من المقبول ارتداء قطعة معينة من القماش. تعمل أشياء مثل الملابس كواسطة "تحمل معنى كالكلمات المكتوبة". في الوقت الحاضر، يُنظر إلى الأزياء للجنسين (unisex) على أنها أكثر وأكثر قبولًا ولكنها لا تزال تخضع للتنظيم من خلال مجال الموضة. على سبيل المثال، "جينز الboyfriend" الذي يتم تسويقه بشكل كبير يوفر للمرأة مساحة لتخطي الحدود الصغيرة بين الجنسين إلى حد ما ولكن في الوقت نفسه يعتبر هذا الامر مقبولًا فقط لأن مجال الأزياء أعطاه الموافقة. يتم تنظيم كيفية ارتدائه أيضًا، ويجب ارتداؤه بنوع معين من الإكسسوارات؛ تقدم الكثير من مواقع الموضة "طرقًا عصرية" لارتداء جينز ال “boyfriend". لا تزال تعتبر ملابس "boyfriend" لذا "يجب أن تفهم" كيفية ارتدائها من أجل الحفاظ على الأنوثة المطلوبة. لذا لا يزال كسر الثنائية الجندرية محدود. بالتأكيد، يمكن للناس أن يختاروا عدم اتباع إرشادات الموضة، ولكن يميل الكثير منا إلى القيام بذلك لتجنب التهميش وفي هذه الحالة بالذات، لتجنب وصفنا بأننا "قبيحين".
في بعض الأحيان، لا تكون الضوابط داخل مجال الأزياء فحسب، بل أيضًا حكومية. في بعض البلدان، قد يتم القبض عليك إذا كانت طريقتك في ارتداء الملابس لا تتوافق مع "المعايير الجندرية". على سبيل المثال، هناك قانون في لبنان يمنعك من ارتداء الملابس كالجنس "الآخر"، حيث قد يصنفونه على أنه انتحال للهوية (يستخدم هذا القانون خصيصًا ضد الأفراد العابرات الانثويات).
تنطبق القيود والضوابط الضمنية على ما نرتديه أيضًا في البلدان الغربية. لنأخذ على سبيل المثال حالة جان تشارلز دي مينيزيس،
"الكهربائي البرازيلي قتل بطريق الخطأ برصاص شرطة مكافحة الإرهاب في محطة مترو أنفاق ستوكويل" ... "قال الضباط إن العامل المساهم في إطلاق النار على السيد مينيزيس كان قميصه المكتنز، والتي قالوا إنا كان من الممكن أن يخفي قنبلة وكان غير مناسب في يوم دافئ ".
بناءً على عرقه وطبقته وما كان يرتديه، كان يُنظر إليه على أنه خطر "محتمل". كان الضباط مضللين بسبب انحيازهم العرقي والجندري والطبقي ولكن أيضًا بسبب فكرة مسبقة عما يفترض أن يرتديه شخص ما في "يوم بريطاني دافئ" (مع ملاحظة أن تعريف الدفء في حد ذاته يختلف من ثقافة إلى أخرى؛ إذا جئت من بلد ترتفع فيه درجة حرارة الصيف، قد لا تجد الصيف البريطاني حارًا جدًا). مرة أخرى، نحن لسنا أحرارًا حقًا، نحن دائمًا متورطون في الضوابط التي تحد من أسلوب التعبير لدينا.
كاستنتاج:
إن الحق في التعبير عن أنفسنا هو حق مهم، ولكن في مجتمعات ما بعد الحداثة هذا الحق بعيد كل البعد عن حصول الجميع عليه. لا ينظم المجتمع أفكارنا ومشاعرنا فحسب، بل ينظم أيضًا جسدنا وكيف نختار التعبير عن أنفسنا من خلاله. مع وسائل التواصل الاجتماعي، لا تتم الرقابة في الحياة العامة فقط ولكن أيضًا عبر الإنترنت. نحن بحاجة إلى أن نكون على دراية بكل هذه القيود وكيف يمكننا كسرها دون السماح بظهور خطاب الكراهية. من المؤكد أن حظر بعض البلدان ليس صريحًا. قد تتاح الفرصة للناس للتعبير عن أنفسهم دون أن يتم القبض عليهم من قبل سلطة حكومية ولكن هذا الحظر يتجلى في خزي وتهميش الأشخاص الذين يعبرون بشكل مختلف. قد ينشأ الخزي من المجتمع وغالبًا ما يدخل إلى أذهاننا. إذا كان المجتمع لا يمارس رقابته بشكل مباشر فسوف يجد طريقة تجعلنا نشعر بالخجل وبالتالي لتغيير سلوكنا أو طريقة التعبير وفقًا لما يُنظر إليه على أنه مقبول اجتماعيًا.
علينا أن ندرك أن حرية التعبير المطلقة لن ولا يمكن ان توجد. ومع ذلك، يمكننا أن ندرك ما نختار التعبير عنه والتحكم فيه، والأهم من ذلك ما تعكسه هذه القيود عن المجتمع الذي نعيش فيه.