ابنتي، أنا، ورخمانينوف
أحمل "مخلوقاً فضائياً" داخل جسدي. لا أملك شيئاً حيال ذلك. لم يخبرني أحد عن شعور أن يعيش كائنٌ حيّ داخل جسدي طوال أشهر. كانت ابنتي جنيناً شديد الهدوء، ينام كثيراً ويتحرّك بخفة أحياناً. حينها، لم تكن ابنتي بعد، بل كانت مجرد كائن لا أعرفه وأخاف منه حد الرعب أحياناً. في بعض الليالي، كان ذلك الرعب يتحوّل إلى كوابيس أواجهها بمفردي، تماماً مثلما أواجه، بمفردي، وجودها وحياتها في داخلي. لم اعتبرها يوما جزءاً أو قطعةً مني. كانت منذ حركتها الأولى، ولا تزال، كائناً ثم إنساناً مستقلاً أحاول التعرف عليه. منحها هذا التعامل شخصيةً مستقلةً بالفعل، كما سمح لكلينا بمساحة حرية فردية تجعل الأوقات التي نمضيها معاً أكثر حميمية، ولعلاقتنا أن يكون فيها الكثير من الندية. كثيرا ما تقفل باب غرفتها عليها. عندما أسألها ماذا تفعلين؟ تجيبني لا شيء، تماما مثلما تبقين أنتٍ أحيانا في سريرك دون فعل أي شيء سوى التأمل.
عند ولادتها، لم تبكِ. لم تصرخ. فقط نظرت للجميع بعينيها الواسعتين بفضول، بدون دهشة. بدت وكأنّها تحاول التعرف على الحضور والمكان. أنا أيضاً كنتُ أحاول التعرف إليها. كان هذا كلّ ما يشغل بالي حينها... هكذا إذًا يبدو هذا الكائن الذي عاش داخلي تسعة أشهر. عيناها الواسعتان نسخةٌ عن عيني والدها، لكني أعرف هذه النظرات جيداً. إنها نفس نظراتي. قضينا وقتاً طويلاً لا نفعل شيئاً سوى التحديق في بعضنا. أعتقد أنها، بدورها، لم تكن تعرفني فعلاً. تشاركنا نفس الجسد رغماً عن كلتينا، والآن يتعيّن علينا أن نعيش معاً ونتعارف. ونحن، حتى اليوم، نتعرف على بعضنا. لا أشغل بالي كثيراً بما ستصبح عليه مستقبلاً. سنرى. يضحكني أنّها ورثت بعض صفاتي وكيف تستخدمها ضدّي لتكسب النقاش. لكنّ لها شخصيتها الفريدة. وأنا، لم أردها يوماً نسخة مني… هكذا، أتابع بفضول تغيّراتها وكيف أنها تصبح "هي" يوماً بعد يوم.
طوال فترة مكوثي في المستشفى، اعتنى بها والدها أو الطاقم الطبي حصراً. لم أملك الرغبة ولا الطاقة على القيام بأي من المهام الرعائية. لكننا، حينذاك، تشاركنا الفضول وسيرغي رخمانينوف (Rachmaninov). أذكر جيداً عندما استمعنا إليه لأول مرة بعد ولادتها. أدارت رأسها قليلاً كمن يبحث عن مصدر الموسيقى. نظرنا لبعضنا، وابتسمتُ لها للمرة الأولى. في تلك اللحظة، عرفت أنّ هناك شيئاً ما مشتركاً بيننا... لقد تعرّفَت على الموسيقى التي رافقت فترة وجودها داخلي. أخرجتُها من سريرها الصغير ووضعتها بجانبي، تمسك إصبعي بيدها فنستمع معاً. تكرر هذا المشهد كثيراً طوال السنوات الستّ الأخيرة. إذ إنني لست من هواة النشاطات وملء وقت الأطفال بما هو "مفيد". بإمكاننا أن نقضي وقتاً ممتعاً وحميمياً، بينما نحدّق في السقف... أو في السماء. ويكفي أن نكون مع بعضنا و نستمع للموسيقى . لا أتذكر انني اخدت ابنتي يوما لزيارة الطبيب و لا أعلم ماهي الاوراق المطلوبة للتسجيل في المدرسة ولا مواعيد التطعيمات. وجودي في حياتها يشبه وجود الأميرات في قصص الأطفال، كيانات أثيرية أسطورية منفصلة عن الواقع و ملله. لا أذكر أنني علمتها يوما مهارة ما، لكنها تجيد مراقبتي و تقليدي. لطالما فاجأتني بأنها تعلمت الكثير بهذه الطريقة. فقط شاهدتك و بعدها جربت بنفسي.
لم أشعر يوما برغبة في الإنجاب، حتى بعدما وقعت في الحب و تزوجت. لا أحب الأطفال ولا أجيد التعامل معهم لغاية اليوم. لم أقرأ أية كتب من التي تعج بها المكتبات حول التحضير لاستقبال طفل. كنت كمن يرمي بنفسه في غمار التجربة ليعيشها كأنه الإنسان الأول. عشت في قوقعة و مسحت من ذاكرتي كل ما سمعته مرارا عما يجب أن تكون عليه الأمهات المثاليات سواء في ثقافتي الأصلية او ثقافة مجتمعي الجديد. لكن، بقيت في مخيلتي صورة الأم المنهكة على حافة الانهيار. لم أكن أريد ذلك. لم أكن أريد أن تكبر ابنتي و أكرر على مسامعها أنني ضحيت من أجلها و انتظر منها المقابل. لم أكن أريد أن أصبح كيانا أموميا وحسب. خفت أن أفقد نفسي. فقدت جزءا من روحي من قبل، وأردت أن أحافظ على ما تبقى مني.
بعد ولادتها، رفضنا زيارات الأهل في الشهر الأول. أردنا أن نكون لوحدنا وأن نتعرف على بعضنا البعض ونؤسس لحياتنا الجديدة خطوة خطوة بمفردنا، دون تدخلات أو نصائح ولا ضغوطات. كثيرا ما تستباح الأمهات منذ اللحظات الاولى للحمل. تتحولين لمجرد جسد يحمل طفلا. الجميع يسمحون لأنفسهم بالتطفل والتدخل وحتى لمس بطنك دون إذنك. تفقدين نفسك شيئا فشيئا. لا أحد يهتم بك لشخصك، لا أحد يسأل عما تشعرين به طالما صحتك جيدة من أجل جنينك. لماذا يسأل أحدهم عن شعورك من الأصل؟ كيف لا تكونين سعيدة وأنت ستصبحين أمّا عن قريب؟ كيف تجرؤين على الشكوى بينما هنالك نساء يتمنين الحصول على ظفر طفل؟
وقعت في غرام الكونسرتو الثاني في مارس/آذار 2012. كنت مثل Rachmaninov حينها، غارقةً في دوامة من الحزن، الاكتئاب، والانهيار العصبي. أمضيتُ ساعاتٍ طويلةً لا أفعل شيئاً البتّة. بل غيرُ قادرةٍ على فعل أي شيء. حتى النوم كان رفاهية لا أمتلكها. كما لم أمتلك القدرة على النسيان. أمضيتُ ساعاتٍ في الاستماع إليه، حتى نشأت بيننا علاقة شديدة الحميمية. شعرتٌ بكل ما شعر به عندما ألّفها، في زمان ومكان مختلفين تماماً. كنت أستطيع أن أتخيّله وهو غير قادر على مقاومة طبيبه بينما يحمله قسراً ويجلسه على البيانو ليجبره على العزف. شعرتُ بنفس استسلامه وعدم جدوى المقاومة. شعرتُ فقط بالرغبة في التلاشي والذوبان في العدم. رغبتنا في أن لا نكون.
بعدما كبرَت ابنتي، وتكلّمت، كانت تشير إلى رخمانينوف Rachmaninov بـ"الرجل الذي تحبه ماما". هي أيضاً تحبه، لكنها تحبه لأجلي. تخبرني دائماً أنها ستعزف الكونسرتو الثاني يوماً ما في أكبر قاعة في العالم وستخبر الجميع انها مقطوعتي المفضلة. عندما كانت أصغر، كانت تغضب عندما يعزفها والدها لي. أحيانا لأنها لا تجيد العزف، وأحيانا أخرى لأنها تريدها أن تصبح موسيقاها هي أيضاً وليست موسيقى ماما فقط. "بيتهوفن أفضل منه على كلّ حال"، تقول بعدم اهتمام مصطنع. عندما حان وقت اختيار آلة موسيقية في المعهد لتتعلم العزف عليها، اختلفنا معها وتناقشنا مطوّلاً، محاولين إقناعها بأن تختار الكمان لتتعلم العزف عليه عوضاً عن البيانو. وعندما استنفذت الحجج المنطقية، صرخت قائلةً إنها تريد تعلم البيانو كي تعزف لي Rachmaninov.
نستمع للمقطوعة مجدداً. أطلب منها أن تنسى البيانو وأن تستمع للأوركسترا المصاحبة له، وكيف أنّها لا تقلّ إبداعاً عن البيانو. ربما تكون هذه الموسيقى الوحيدة التي لا تطغى فيها الآلة الرئيسية، والتي لا يقل فيها الأوركسترا جمالا عنها. تقتنع، أخيراً: ستكون عازفة الكمان الأول. ترقص قليلاً، وتسألني عن رأيي في الرقصة choreography التي اخترعتها للتو. تعود مجدداً لتخبرني أنها ستتعلم البيانو أيضاً مع والدها في البيت، وستعزف لي على البيانو، وعلى الكمان أيضاً. "أعرف أنك تحبينها، ماما". تسألني إن كنتُ سأقع في غرام Rachmaninov لو كان لا يزال حياً، ولو تقابلنا. نضحك معاً، ونعيد المعزوفة من البداية.