الصورة أخذت من هنا

الصورة أخذت من هنا.

اين تخطىء الحملات حول العمل الجنسي في لبنان؟

كتابة سارة قدورة. ترجمة خلود فواز.

بدأت رغبتي في الكتابة عن العمل الجنسي تثمر بعد سنوات من رؤية الحملات والحركات التي يتم تنظيمها حول هذا الموضوع، وليس عنه تحديدا. نظرًا لأن عملنا في مشروع الألف يتمحور حول الجنسانية والجندر والحقوق الجنسية والإنجابية، فنحن نضع أيادينا في أغلب المواضيع المتعلقة بالجنس، وتقاطعها مع العمل ليس استثناءً. من الأعمال المنزلية وتربية الأطفال إلى العمل الجنسي، لم يتم حتى الآن إعطاء الأشخاص غير المأجورين والذين تتقاطع أعمالهم مع الجنس حقهم عندما يتعلق الأمر بالتنظيم النسوي في لبنان.

عندما نتحدث عن العمل الجنسي في لبنان، فإن المناصرة التي تدعي أنها لصالح عاملات الجنس تدمج العمل الجنسي والاتجار بالبشر في جوهرها. المصطلحات المستخدمة غالبا ما تتجنب "العمل الجنسي"، وتستبدلها بكلمة "الاتجار" و "الدعارة"، وتستبدل "عاملات الجنس" ب "ضحايا الاتجار" و "بائعات الهوى". إن طمس الخطوط الفاصلة بين المهنة التي قد يختارها المرء ينتهك وكالة وموافقة النساء والآخرين، ليتم إجبارهن على اعتبار عملهن شكل من الأشكال المختلفة للعبودية الجنسية.

هذه الفروقات مهمة لمصلحة جميع المعنيين. من خلال محوها، لا يتوقف الأمر عند القول صراحة إن النساء لا يتبادلن الخدمات الجنسية عن طيب خاطر مقابل المال، ولكننا أيضًا لا ننصف النساء اللاتي يتم الاتجار بهن جنسيا من خلال جمعهن في نفس الفئة مع السابقة. إن مناهضة الاتجار الجنسي، بالإضافة إلى أشكال الاتجار الأخرى، تستحق تمويلها وجهودها الخاصة، وتستحق النساء وغيرهن ممن وقعن في دائرة الانتهاك أن تُسمع أصواتهن وأن تُحمى حقوقهن دون أن يتم التغاضي عنهن أو استخدامهن لأغراض سياسية. ولا ينبغي استخدام اصواتهن لإسكات أصوات عاملات الجنس، اللواتي ينتهي الأمر باعتبارهن ضحايا من أجل "إنقاذهن، واللواتي لا تصل قصصهنّ إلى مقدمة حملات المناصرة.

هذا الخلط بين العمل الجنسي والاتجار بالبشر ليس جديدًا أو فريدًا في لبنان. فهو يحدث في أجزاء كثيرة من العالم، حيثما يدفع التمويل إليه،  وتأثيره ضار. عادةً ما تستخدم المناصرة التي تتمحور حول هذه القضية مواد تضع عاملات الجنس في موقع الضحايا لحملاتها، وتركز على تصوير ضحايا الدعارة في مواقف عنيفة، وتلعب حول مُثُلنا الأخلاقية عن الجنس والحب.

ومن الأمثلة على تلك الميلودرامية حملة "كفى" لمكافحة الدعارة عام ٢٠١٤ بعنوان "الهوى ما بينشرا"، والتي تُرجمت حرفياً إلى "الحب لا يمكن شراؤه"، كلعب على مصطلح "بائعة الهوى" أو "بائعة الحب"، وهو مصطلح تم استخدامه لوصف عاملات الجنس باللغة العربية. مع المرئيات التي تتضمن صور لذراع يتم لفها وإجبارها على الفراش، وملصق قديم من الثمانينات بأضواء نيون، يتم إجبار "المومس" المصوَّرة على ممارسة الجنس في مكان يبدو وكأنه صُنع من أجل عاشقين محبين (اقرأي: مغايري الجنس، يعشقان بعضهما البعض، دون تبادل المال او غيره مقابل الجنس).

الرسالة واضحة، الحب لا يمكن شراؤه، وعندما يمارس الجنس من أجل المال لا يعود محبًا وبالتالي يبطل التراضي فيه. يتم الخلط بين الحب والجنس مرة أخرى، بعد أن نكون قد طمسنا بالفعل الخطوط الفاصلة بين العمل الجنسي والاتجار بالبشر، ويُترك المشاهد لربط هذا الشكل المحدد من المبادلات الجنسية بمحاولة تسليع شيء ذي قيمة ونقاء مثل الحب.غير مقبول.

مشكلة الميلودراما هي إنها تؤدي إلى اختزال القضية المطروحة للناس وتجاهل العوامل الهيكلية والسياسية الأكبر في متناول اليد1 ، وهذا بالضبط ما تفعله هذه الحملة وغيرها. يحدث هذا الاختزال في كل من الخطابات المؤيدة للعمل الجنسي والخطابات الإلغائية المناهضة لها (بمعنى، تلك التي تسعى إلى إلغاء العمل الجنسي). ينتهي الأمر بالطرفين باختيار القصص التي تتناسب مع رواياتهم لماهية العمل الجنسي. ومع ذلك، فإن أولئك الذين يسعون الى إلغاء العمل الجنسي لا يدركون أبدًا أهمية التراضي في هذه المقايضات، ويضعون مسؤولية إعادة إنتاج كراهية النساء والنظام الأبوي على أجساد النساء أنفسهن بدلاً من النظر إليها بشكل منهجي.

من الواضح أن التراضي محل صراع في معادلة الخلط هذه. أصبح التعرف على النسوية أسهل نسبيًا في عصرنا الرقمي اليوم، خاصة بعد أن تم تبسيط العديد من مفاهيمها ومثلها وجعلها قابلة للاستهلاك بسهولة، مما يجعلها جذابة لمجموعة كبيرة من الأشخاص الذين لولا ذلك لن يكونوا مهتمين بالحركة أو الاستثمار بها. هذا الأمر لحسن حظنا، ولم تكن أجيال النسويات من الماضي لتتوقعه، ولكن الجانب السلبي منه هو أنه أضعف العديد من المفاهيم المعقدة، بما في ذلك التراضي. هذا لا يعني أن التراضي لا يمكن فهمه، أو أنّه علينا تهميش أصوات الأشخاص اللواتي يعلمن أن موافقتهن لم يتم اخذها بعين الاعتبار تحت ستار "الغموض". لكن يصعب فهم الموافقة او التراضي دون النظر إلى السياق، ويصعب فهمها عندما نختصرها في خيارين: النعم الحماسية هي نعم، وكل شيء آخر يعتبر غير توافقي.

يطعن هذا النهج الاختزالي بمفهوم التراضي عندما يتضمن تعاملا بالمال أو أي مواد أخرى مقابل خدمات جنسية. إذا أردنا اتباع منطق النسوية السائدة والتظاهر بأنه لا يمكن النظر في الموافقة إلا عندما تكون حماسية، عندما يريد الشخص حقًا ممارسة الجنس ويشعر بأنه يرغب ممارسة الجنس، فيمكننا أن نفترض أن معظم الجنس الذي تنخرط فيه عاملات الجنس ليس بالتراضي. كثير من عاملي الجنس في الأفلام الإباحية وخدمات المرافقة والجنس عبر الكاميرات والخدمات الجنسية الأخرى ليسوا متحمسين في كل مرة يمارسون فيها الجنس، لأنه صدف أن يكون جزءًا من وظيفتهم، بالطريقة نفسها التي لا أتحمس فيها لكل مهمة في عملي، أو في كل مرة اقوم بمهمة معينة. لكن على الرغم من أن معظمنا مرتبطون بوظائفنا لأنها عمل مأجور، طالما أن هذه الوظائف لا تتعلق بالخدمات الجنسية، لن نجد حملات تحاول تحريرنا من قيود أجورنا.

إن المطالبة بتعقيد الموافقة ليست محاولة للذم بالتجارب السيئة التي تتعرض لها النساء وآخرون عندما يتم انتهاك موافقتهن. بدلاً من ذلك، إنها خطوة نحو الاعتراف بتعقيد تجاربنا الجنسية، من العلاقة الجنسية الشخصية وغير المأجورة، إلى المأجورة منها. فنريد أن نضمن أننا لا نتحرك نحو فهم للجنس من منظور ثنائية الخير والشر، بل يرى أيضًا تعقيد التجربة الإنسانية بينهما، والتي يمكن أن يتواجد ضمنها الجنس مقابل المال.

يمكن قول الكثير من النقد عن داعمي الإيجابية الجنسية كحركة. أحدها هو بعض الاستخفاف من المشاعر السلبية و/أو الخوف الذي قد يربطه المرء بالجنس بناءً على تجاربهم السابقة أو معتقداتهم، أو الضغط الذي يمكن أن يُمارس على الأفراد للانخراط في تجارب جنسية لاكتساب مستويات معينة من الشرعية داخل الدوائر النسوية (مثل الانفتاح على التجارب وكم مرة ومن وعدد الأشخاص الذين تمارسي الجنس معهم ... إلخ)، إلى جانب أمور اخرى. علاوة على ذلك، يمكن قول الكثير عن الموقف الذي يتسرب إلى التنظيم النسوي الذي يرفض مناقشة الجنس خارج نطاق العنف. لا أريد إحياء الإيجابية الجنسية هنا، كلا. أريد فقط أن نقف عند الأخلاق والصمت الذي يحيط بكلمة "الجنس" عندما يتعلق الأمر بعاملات الجنس.

عند النظر إلى العمل الجنسي كعمل، حيث يتم التفاوض على الموافقة، وحيث يكون للعاملة نفسها رأي في القرارات التي تتخذها حول كيفية تحسين وضعها، يمكننا أن نبدأ رؤية أهمية التنظيم للعاملات أنفسهن. لا يمكننا أن نجد جذور التضامن النسوي والعمالي في "إنقاذ" العاملة/العامل أو "إنقاذ" المهنة، لأن مصلحتنا لا ينبغي أن تكمن في تحقيق أوهامنا حول إنقاذ أو تعزيز صنعة ملطخة بالتسليع الرأسمالي. يجب أن يكمن في الاستماع إلى عاملات الجنس وتوفير كل الموارد الممكنة لتحسين ظروفهن.

هذا يتطلب أن نحمّل بعضنا البعض المسؤولية عن الحملات حول حقوقهن. يجب أن نسأل أنفسنا: من المستفيد من السياسات التي نطالب بها؟ كيف تنعكس على ظروف عاملات/عاملي الجنس؟ هل نستهدف سياسات الهجرة التي تؤثر بشكل مباشر وتسهل الاتجار بالبشر؟ هل نتبنى منظورًا يساريًا تقاطعياً يميز جيدًا بين حقوق العمل والعمل الجبري؟ وفي خضمّ هذه العملية برمتها، هل نقوم بحملات ونستخدم مصطلحات تعزز وصم عاملات الجنس واعتبارهن ضحايا؟ هل نستخدم لغة تشويه صورة مشتري الخدمات الجنسية، وبالتالي تخلق مرة أخرى ثنائية "الفتاة المنكوبة" و "الرجل العنيف"؟

في حملة "كفى"، وحملات مماثلة من دعاة إلغاء العمل الجنسي في جميع أنحاء العالم، أصبحت "المومس” تعامل كطفلة وقدرتها على اتخاذ القرارات مشوشة. ستفعل أي شيء مقابل المال، بما في ذلك العمل في ظروف شنيعة وخداع الآخرين في سياقات أخرى غير متعلقة بالعمل، لأنها معتادة على التلاعب من أجل البقاء. إنها بالتأكيد لا تستمتع بوضعها الذي تم إجبارها عليه بشكل مباشر أو غير مباشر. إنها تتعرض للانتهاك والإساءة باستمرار، وتقديرها لذاتها وقيمتها يضعفان بسبب الظروف. إنها لا تتحكم أبدًا في خياراتها وظروف عملها، وعلاقتها بالجنس تختصر بالاستغلال والخداع.

وبالمثل، فإن الزبون هو رجل عاهر أو ذكوري منحرف، وغير قادر على التحكم في رغباته. إنه يستخدم "المومس" كوعاء لإطلاق رغباته وحاجاته فيها. فهو ينظر إليها تلقائيًا على أنها أقل إنسانية وامرأة أدنى منه قدراً، يقوم بأعمال لا توصف معها والتي لن يقوم بها مع زوجته. يطلق العنان لعنفه على "المومس" حتى يكون رجلاً صالحًا ومحترمًا مع باقي النساء في حياته. الطريقة الوحيدة لاحتواء عنف هذا الزبون هي من خلال تجريم نشاطه، حتى لو كان ذلك يعني أنه سيسعى لتحقيق تلك الرغبات الآن في الظلام - بشكل غير قانوني وتحت الطاولة.

هذا التأطير مؤذٍ لجميع الأطراف المعنية. هذا لا يعني أن الزبائن لا يمكن أن يكونوا عنيفين، ولكن تحديد صورة العنف على هذا النحو هو اختزالي للغاية وغير واقعي. تختلف الأسباب التي تجعل الناس يسعون إلى ممارسة الجنس مقابل المال وقد تعود تلك الأسباب إلى مدى سهولة وصولهم الى الجنس لأسباب مختلفة. الحقيقة هي، بالنظر إلى البلدان التي يكون فيها تجريم الزبون هو سياسة الأمر الواقع، فإن الشيطنة الناتجة لزبائن العمل الجنسي تعني أن الزبائن "الأفضل" الذين سعوا للحصول على الخدمة في الأوضاع القانونية السابقة لن يسعوا إليها بعد الآن. ستقل هذه المجموعة من الزبائن لاحقًا ويبقى الزبائن الذين لا يمانعون مخالفة القانون. هذا يترك لعاملات الجنس مساحة أقل لاختيار من يمارسون معه الجنس من أجل كسب المال، وبالتالي يحد من وكالتهن مرة أخرى.

هناك أيضًا الكثير من الأدلة حول انعكاس هذه السياسات على سبل عيش العاملات في الجنس. في ظل الظروف المؤيدة للإلغاء، يكون لديهن قدرة أقل على التفاوض بشأن الأسعار والجنس الآمن. يجب عليهن أيضًا القيام عملهنّ في الخفاء، مما يعني انهنّ لا يستطعن الحصول على الحماية التي كنّ يحصلن عليها سابقًا، ولا يمكنهنّ طلب الحماية من الشرطة أو الدولة2 . فلماذا ما زلنا نطالب بسياسات ثبت أنها ضارة بعاملات الجنس في العديد من البلدان حول العالم؟

في ختام هذا المقال، أود أن أؤكد على أن هذا النقاش الفكري حول ما يصلح لعاملات الجنس لا يعني شيئًا إذا لم يستطع دفع أصوات المتأثرات والمعنيات به الى المقدمة. يعد تحليل الاضطهاد البنيوي الذي يؤدي إلى تسليع الجنس والعمل القسري في مجال الجنس خطوة مهمة في عملية تحسين حالة النساء والأشخاص من مختلف الهويات الجندرية على المدى الطويل. حتى ذلك الحين، نحتاج إلى الاستماع إلى أولئك اللواتي ندّعي أننها نهتم بمعيشتهنّ ورفاههنّ، وأن ننظر عن كثب إلى العنف الذي نشجعه من خلال التكلم فوق أصواتهن.