كيف أنمو: الإعاقة والسمنة وصورة الجسد

اخترنا النص التالي، بنسخته الانجليزية، للترجمة بسبب أهميته كقصة شخصية تعبر عن المشاعر والأفكار التي يخلقها فينا تقاطع الإعاقة مع السمنة كأمرين غير محبذيّن في تكوين صورة الجسد وصقل تجاربنا المجتمعية. نشجعكم على قراءة المزيد من نصوص المدونة Karin Hitselberger والاطلاع على مدونتها الرائعة Claiming Crip.

ترجمت النص ليال عبود من مشروع الألف.

الصورة لـ Libby Phillips.

تحذير وملاحظة المترجمة: الضمائر المستخدمة فيها تنويع متعمّد من المذكر والمؤنث خاصةً في الجمع، ذلك لخلق معنى محايد جندريًّا. بالنسبة لضمير "-همنّ" (مثال "مساعدتهمنّ") فهو ضمير جمع محايد جندريًّا، أطلقته ويكي الجندر، وقد تم استخدامه في مخاطبة القارئ فقط حرصًا على إبقاء الأسلوب مفهومًا - فهو ضميرٌ غير منتشر بعد.

***

تحذير وملاحظة المؤلفة: يناقش المقال الآتي تجاربي الشخصية مع اضطرابات الأكل وإيذاء النفس، وهو يتضّمن مواضيع التلاعب النفسيّ الطبيّ1  (medical gaslighting)، تعييب الإعاقة (ableism)، واحتقار السمنة أو البدانة. أشارك هذه القصّة لأنني أعتقد أنها مهمّة، لكنّني أدرك أيضًا أن أجزاءًا منها قد تكون مُقلقة لبعض الناس. إذا كنتمنّ ﺗﻜﺎﻓﺤ(ﻮ)ﻦ، أتمنّى وصولكمنّ للمساعدة والدعم؛ يوجد عدد من الموارد المُدرجة في نهاية هذا المقال، وأنا متاحة دائمًا إذا كنتمنّ بحاجة للتحدث.

كان الصمت في الغرفة ملموسًا وأنا أحاول استيعاب ما قيل للتو... انسالت أصابعي، دون وعيٍ وانتباه، على كمّ قميصي الثقيل الذي لم يكون ملائماً لخريف جنوب فلوريدا.

"بالطبع أنت تكرهين جسدَكِ، فأنتِ على كرسيٍّ متحرّك" تردّدت صدى كلماته حولي، ازداد حجمها، أكثر فأكثر ومع مرور كلِّ ثانية. جلست هناك مذهولةً، عاجزةً عن الرّد ومرتابةً لما يجب فعلُه بعد ذلك.

"على أيّة حال"- تابع، غير آبهٍ لتغيّر لغة جسدي وسلوكي خلال الـ 15 ثانيةً الماضية - "ليست بالمشكلة الكبيرة إذا تخلّيتي عن بضع وجبات طعامٍ من حين إلى آخر. أعني، أنتِ لست نحيفةً..."

ابتلعت بغصّة. حدّقت في السقف وعددتُ الثواني محاولةً كبح مشاعري، فلا تخونُني. في نهاية المطاف، قلت لنفسي، إنّه على حقّ. أنا لست نحيفةً، ويجب على الفتيات أمثالي أن يكرهن أجسادهن. لذلك ربما يبالغ الجميع في ردّ فعلهم، فكلّ شيء على ما يرام. كل شيء على ما يرام كما دائمًا، والآن لديّ دليلٌ على أنه لا يوجد خطب ما.

واصلت التحديق في السقف في غرفة العلاج المظلمة والرطبة، وبقيت صامتةً، بشكل غير معهود، فيما تنساب الدقائق. لا بدّ أنّني سرحت؛ فقد سمعته يقول اسمي بعدما شعرت أنّها ساعات.

"عفوًا، ماذا قلت؟" سألت بهدوء، مستعيدةً صحوي.

قال: "سألت إذا كنتِ قد جرحتي نفسك في يوم من الأيام، أو راودتكِ أفكارٌ في إيذاء نفسك".

كما لو أنّني قد أخبرك! قلت لنفسي قبل أن أجيب بأكبر قدرٍ ممكنٍ من الاقناع، "أوه، لا، بالطبع لا." بدا أنّ كذبتي أشبعت قلقه المفاجئ على سلامتي، فقد ابتسم قائلًا "يُسعدني سماع ذلك. سأراك الأسبوع المقبل."

خرجت من المكتب بأسرع ما يمكن، ألاعب أساوري وأتمسّك بكمّ قميصي الذي بالكاد أخفى الندوبَ المصطفّة على معصمي.

لقد جعلني مرضي أُتقن الكذب، ولكن، في الواقع، الناس من جعلوا الكذب سهلًا... لأنّ الجميع توقّع أن تكون شخصًا مثلي بائسةً ومكتئبة، وعندما يتعلّق الأمر بالطعام، يميل الناس لمدحي على تخطي وجبة الغداء أكثر من ميلهمنّ للقلق. لم تكن هذه هي المرة الأولى التي يُقال لي فيها أنه من المقبول لشخص مثلي أن تكره جسدها وأن تدّمره - ولن تكون الأخيرة.

لم يقترب جسدي أبدًا من ملاءمة حتى أكثر التعريفات تحرريّةً لكلمة "طبيعيّ" أو "مقبول اجتماعيًّا". طوال حياتي، لقد كنتُ معوّقة جسديًّا وأستخدم كرسيًّا متحرِّكًا كأمر أساسي للتنقل، وبالنسبة لمعظم سنوات المراهقة والبلوغ، كنتُ على درجاتٍ متفاوتة من البدانة.

لم أحصل أبدًا على امتياز السكن في جسدٍ يسمح بالاندماج مع الحشود وعدم ملاحظته. نادرًا ما أرى أشخاصًا يشبهونني على شاشات التلفاز أو في أشكال أخرى من المحتوى الإعلامي. إنّ وجودي بحدّ نفسه غير مريحٍ لكثيرٍ من الناس، إلى حدّ صنعهم منّي ضحيّة "قلقٍ" غير ضروريّ وفي غير محلّه على صحّتي وسلامتي.

على أقلِّ تقدير، لطالما كانت علاقتي مع جسدي معقّدة، فقد نشأت كفتاةٍ معوّقة في مجتمعٍ لا يخفي قوله أنّ ما أنا عليه مشكلة. حضرت عددًا لا يحصى من جلسات العلاج الفيزيائيّ حيث حاولت وحاولت عبثًا أن أكون طبيعية جسديًّا قدر الإمكان، وكيفما اجتهدت في محاولتي، لم يكن ذلك كافيًا. لم أستطع جعل جسدي يندمج أو يبدو أو يتصرف مثل أيّ جسدٍ آخر.

ولأنّني معوّقة جسديًّا، لم يكن يومًا جسدي ملكي أنا تمامًا. منذ أن كنت طفلاً، انهالت عليّ الرسائل التي أقنعتني أن هناك شيئًا خاطئًا في جسمي وفي الطريقة التي كنت أتنقل بها عبر العالم. سواء كان الغرباء في الشارع، أو أهل زملائي في المدرسة وهم ينظرون إلى والدتي بأشدّ شفقةٍ متعاليةٍ ويقولون لها "أنتِ قويّة جدًا، لا يمكنني أبدًا تربية طفلًا مثل هذه. لا أعرف كيف تفعلين ذلك"، أو الأشخاص الذين يعاملون أصدقائي مثل القديسين لمجرد تسكّعهمنّ معي، أو المحترفين الذين يذكّرونني باستمرار بأهميّة الحفاظ على جسدي صغيرًا حتى يتمكن الآخرون من الاعتناء بي دون الكثير من العناء أو "الإنزعاج". دائمًا ما شعرتُ أن الجسد الذي أسكنه يجعلني مشكلة.

لقد اعتقدت حقًا أنه، إذا كان بإمكاني أن أكون أصغر أو أقل إعاقة، فسيكون كل شيء أفضل وسأتصالح مع العالم. في رأسي، كان مصيري تحت سيطرتي، وكلُّ ما كنت بحاجةٍ للقيام به هو التوافق مع توقعات الآخرين لما يجب أن أكون، وكل شيء سيكون على ما يرام. 

بسيط جدًا، أليس كذلك؟

أبداً.

بمعزلٍ عن جدّية المحاولة، لم يفعل جسدي ما أريده أنا أو أيّ شخص آخر. في الثامنة من عمري بدأت البلوغ المبكر، ومن بين أمورٍ أخرى، اكتسبت الكثير من الوزن. حينها، لم أعد معوّقة جسديًّا فقط، بل لم أعد صغيرةً، نحيفةً، أو مقبولةً اجتماعيًّ أيضًا. كان لابدّ إذن من تغيير شيءٍ ما... لذلك اتّبعت نظامًا غذائيًا وفقدت 4 ونصف كيلوغرامات. أستطيع تذكّر كيف كان الجميع فخورين بي. 

وهكذا كانت بداية ما سيصبح هاجسًا شاملاً للسيطرة على جسدي، دون تصرّفات تعدّ مفرطة. إذا كان جسمي هو المشكلة، كنت سأفعل بالضبط ما كان الأطباء يحاولون فعله، كنت سأقوم بإصلاحه، لكن هذه المرة كنت سأكون أنا المُسيطرة.

في الظاهر، دائمًا ما تصرّفت بثقة، بغير تحفّظ، وكأنّني أمتلك رباطة جأشي. لكن من الداخل، كنتُ في حالةِ حربٍ متواصلةٍ مع ذاتي لأننّي لم أرتقِ لمعايير المجتمع ومُثُله. لقد صدّقت كذبة أنّني أجسّد أسوأ شيئين يمكن أن يكون عليهما أيّ شخص: كنت معاقةً، وكنت سمينة. علمت في حينها أنّني لا أستطيع تغيير جزء الإعاقة في المعادلة، لكنني كنت مصمّمةً على أن أكون نحيفةً، فعشت في خوف أن يخرج جسدي عن السيطرة.

قبل ذهابي إلى الكلية مباشرة، أتذكّر أنّ معالجًا فيزيائيًا أخبرني أنه لا يمكنني أن أحصل على تجربة السنة الأولى الجامعيّة التي تسمى بـ freshman 152 ، لأنّ حينها لن يتمكن أحدٌ من الاعتناء بي. أرعبني هذا وأرسل هاجسي بالطعام إلى الهوس المُفرط. طوال فترة الجامعة، كنت أتأرجح بين التجويع والشراهة والتقيّؤ أو التطهير المتعمّد3 . وعلى الرغم من أنّ أصدقائي رأين أنّ هناك مشكلة وحاولن بذل قصارى جهدهن لدعمي، فقد كان من الصعب الحصول على العلاج والدعم، لأنّ المتخصصين اعتقدوا أنّه من الطبيعيّ أن أكره جسدي، ولا يرون خطأً في "القليل من خسارة الوزن."

كان من المفترض أن يكون جسدي محتقرًا، لذلك كنت بائسة بالطبع. بالطبع، كرهت ما كانت منه نفسي، أليس حتميًّا لأيّ شخصٍ في وضعي؟ 

كوني بدينةً ومعوقّةً يعني من المسموح، بل ومن المتوقّع، أن أكره جسدي وأدمّره: كانوا يثنونَني على هذا التدمير، تدمير الذات الذي غالبًا ما سمّوه "ضبط النفس".

وبذلك أمضيت سنواتٍ في كره جسدي وتدميره مقتنعةً بكذبة أن هذا هو ما يفترض أن يفعله أمثالي. لقد غطست في ثقافة الحمية الغذائيّة بالكامل ودون تردّد، واعتقدت أنّ ملاءمة فكرة شخصٍ آخر عن الجمال أو المقبول هو المفتاح النهائيّ لسعادتي. أمضيت سنواتٍ مقتنعةً حقًا أنّ جسمي كان معيّبًا ومكسورًا، ويمتثل أسوأ ما يمكن أن يكون عليه الإنسان.
 

هذا ما يترتّب على تعييب الإعاقة، رهاب السمنة، وثقافة الحمية الغذائيّة: يدمّرنك من الداخل إلى الخارج ويعلّمنك أنّ جسدك دائمًا مشكلة يجب إصلاحها أو احتلالها أو السيطرة عليها. وبدلاً من رؤية كل الأشياء المدهشة الجميلة، يبدأ جسدك في رؤية وجوده بذاته على أنّه فشل.

لحسن الحظ، القصّة لا تنتهي هنا. لن أقوم بختامها بأقواس قزح وأخبركمن أنّ كلَّ شيءٍ على ما يرام الآن، لكننّي سأخبركمن أنّ الأمور قد تحسّنت، وأنّ الأمور تتحسن. قصةُ تعافيَّ ليست خطيّة، وهي أبعد من أن تكون فيلمًا، لكنّها حقيقيّة.

في النهاية، وبدعمٍ من أصدقائي وعائلتي، وجدتُ النوع المناسب من الرعاية الصحية النفسيّة، بعيدةً كلّ البعد عن ذلك اللقاء المحرج في غرفة العلاج المظلمة في مركز الاستشارات الجامعية. تمّ تشخيصي بمرض الشره العصبيّ (bulimia) واضطرابات أكل أخرى غير محدّدة، وقد وجدتُ التركيبة الملائمة من الأدوية والعلاج. لقد تحدثت كثيرًا، وأخطأت أكثر، خاصّة في أوقات حدوث أشياء صعبةٍ وصادمة. لفترةٍ طويلة، كنت أتأرجح بين سلسلةٍ من آليات التأقلم (coping skills) غير الصحيّة، والآن في الثلاثينيات من عمري، بدأت حقًا في ايجاد آليّات صحيّة.

كان أحد أهمّ مكوّنات شفائي هو العثور على صوتي، والتعلّم حقًا أن أستخدمه وأخبر الحقيقة كما أراها، دون اعتذار.

 لا زلت أتعلّم كيفيّة وضع الحدود والسماح لنفسي بالتعبير عن المشاعر بأصنافها كاملةً، لاسيّما الغضب والغيظ؛ لم أصل، لكنّني في طريقي. لأوّل مرة منذ فترة طويلة، أركّز على النمو بدلاً من الانكماش، والشفاء بدلاً من التدمير.

جسدي لم يتغيّر - ما زلت معوّقة وما زلت سمينة - لكنّ الطريقة التي أتعامل بها معه مختلفة الآن.

حتّى عندما تكون الظروف صعبةً، أرفض إلقاء اللوم على جسدي بسبب الإخفاقات النظامية التي تحيط بي وتجعل العيش في جسدي أكثر صعوبة مما يجب بمئة مرة. أعلم أنّني لست المشكلة التي يجب إصلاحها، بل المجتمع. لقد نمَوْت في جماعة، ومن خلال هذه الجماعة، مع أشخاص آخرين يعيشون في أجسادٍ مهمّشة، وتعلّمت أن قصّتي وكفاحي ليست فردانيّة كما كنت أعتقد فيما مضى.

هذه ليست قصةً عن كيف أحببتُ جسدي، بل قصة عن كيف تعلّمت ألّا أكرهه. عندما لا يتلاءم جسمك مع معايير المجتمع أو مُثله، فمن المتوقع منك، بل ويتمّ تشجيعك، على كسر، وتحريف، وتشويه نفسك من أجل الاندماج. يُتوقع منك أن تفعل كل ما يتطلبه الأمر لتشبه الثقافة المهيمنة قدر الإمكان: إنّ رفض القيام بذلك ليس فقط جذريًا وثوريًا، بل أيضًا أداة ضرورية للبقاء وحتى الازدهار في قالَبك الخاصّ.

أنا أتقبّل جسدي، حتى عندما لا أحبّه... لأنّ قبول جسدي هو فعلٌ راديكاليّ للحفاظ على الذات، وبيانٌ سياسيّ يقول أنّ وجودي ليس شيئًا للاعتذار عنه.

لقد كتبت عن تقبّل الجسد، رهاب السمنة، وتعييب عدم القدرة، وحتى عن اضطرابات الأكل من قبل، لكنّي لم أشارك تفاصيل قصتي بهذا الشكل الواضح والصريح. لن أقول إننّي لست خائفة من أن أظهر بهذا الضعف، لكنّني أعتقد أنّ المحادثة حول اضطرابات الأكل، الصحة النفسيّة، والإعاقة، يجب أن تكون موجودة، والقصص المماثلة لقصّتي نادرًا ما تظهر على الطاولة.

لم أكن أبدًا النوع "الصحيح" من المرضى، ولم أتعافَ لأصل إلى النوع "الصحيح" من الأجساد. 

أكتب هذه القصة الآن لأنّه لا ينبغي على الناس أن يكافحوا لأكثر من عقد للحصول على المساعدة. أكتب لأن المرض والحاجة إلى الدعم لا ينبغي أن يحدّدهما رقمٌ على الميزان. أكتب لأنّني أعتقد حقًا أن الثقافة بحاجة إلى التغيير. أكتب لأنّني أعرف أنّ هناك شخصًا ما، في مكان ما، يحتَجن لسماع هذه القصّة ﻓﻴﻌﺮفن أنهمنّ ليسوا بمفردهن.

لا تزال علاقتي مع جسدي معقدة، ولكنّنا نجد سلامنا. أعلّم نفسي أنّني لستُ مضطرةً أن أجعل نفسي أصغر حجمًا لأسهّل حياة الآخرين وأجعلهمنّ أقلّ إنزعاجًا. أعلّم نفسي أن أشغل المساحة التي أستحقّها وأن أتوقف عن الاعتذار عن وجودي.

أنا هنا اليوم لأنني كنت محظوظةً حقًا. لديّ أصدقاء وأسرة داعمات/ﻮن بشكلٍ مذهل... ناضلوا من أجلي لأحصل على المساعدة التي أحتاجها، لكن لا ينبغي أن يكون هذا الأمر صعبًا أصلًا. نحن بحاجة للتوقّف عن الكذب بأنّ النحافة والقدرة الجسدية هي الطرق الوحيدة المقبولة للوجود. 

أن تكون أو تكوني سمينًا/ﺔً ومعوقًا/ﺔً ليس بالأمر السيئ. شكل جسدي والشكل الذي أتحرّك فيه عبر العالم ليس عيبًا أو فشلًا أخلاقيًّا. إنّها طريقة صحيحة تمامًا ورائعة للوجود. وهذا يكفي.

لمزيد من أفكاري حول تقاطع تعييب عدم القدرة، رهاب السمنة، ثقافة الحمية الغذائيّة، وسياسات الجسد، ﺗﺤﻘّﻘ/ﻲ من: