يوميات دولا: عن سحر المشيمة

قرأت رواية السيرة الذاتية الخاصة بـ آنّي أرنو، وفي نفس الأسبوع شاهدت الفيلم المُقتبس عن سيرتها الذاتية، الحدث L'événement. القصّة بسيطة: شابّة فرنسية تروي تجربتها مع الإجهاض عندما كان غير قانوني في ستينيات القرن الماضي في فرنسا. كانت القراءة مؤلمة، لكن كـنسوية، شعرت بأهمية معرفة هذا التاريخ القريب الذي مازال حاضر وواقع للكثير من النساء حولي. إن القصّة لا تخفي عن القراء أي تفاصيل، نشعر من خلال دفتر يوميات البطلة ببرود وقلق يحلقان من بعيد  وهي بانتظار البقعة الحمراء لتظهر على ملابسها الداخلية. شهر بعد شهر، يوصلنا الإجهاد النفسي بسبب نمو البطن الى التفكك، ننتظر اختفاء المشكلة، آملين حدوث معجزة.

كـ كاتبة، أذهلتني بساطة لغة آنّي. بدى سردها للأحداث وقائعي وكأنها ليست هي من تمر بهذه التجربة الموجعة. جسدها الأنثوي[1] الثقيل حمل معه الرفض؛ رفض تقبّل النمو داخل لحمها ومقاومة للتغيرات التي قد تحدث خارج حدود جسدها.

الخوف واليأس قادا البطلة إلى أن تغرز إبرة طويلة في جسمها، اقشعر جسدي وأنا أتصور الألم، طاردتني كلماتها، قرأتها وبكيت.

مشاهدة الفيلم كانت بمثابة رحلة مختلفة، لقطات عملية الإجهاض جعلت الناس ينكمشون في مقاعدهم، شعرت بـتوتر أجساد الرجال القلّة الجالسين حولي داخل صالة السينما، أمّا النساء فظهرن هادئات أكثر، أو ربما كان هدوئهن مبني على معرفة. 

ذكرت نفسي بأن  إظهار وقائع الإجهاض  التي غالباَ ما تُترك غير مسرودة، أمر ذو أهمية. ولكن لم أستطع أن أحدد ما شعرتُ به مباشرة!

عكست الموسيقى المشؤومة الغضب العالق في جسد البطلة. وعكست وتيرة الفيلم البطيئة، عبثية الموقف بأكمله. نفذ صبري وشعرت بالغضب لعدم وجود خيارات لدينا كـنساء. تجمدت الدموع في عيني. أرادت البطلة التخلص من الحمل واحترامًا لها،  رفضت أن أبكي أو أن أجعل منها ضحية.

كان هناك مشهد لحبل معلّق، مع كائن مُجهض في نهايته ومشيمة مزروعة في بدايته، مما جعلني أدرك ما شعرتُ به: كنت أشعر بالفضول. تساءلت كيف  للحبل السري، وما هو سوى أنبوب من الأوعية الدموية، أن يصبح  رمزًا عن التواصل العاطفي والرباط الذي لا ينكسر بين الأم والطفل/ة.

عند وصفي للفيلم، وجدت نفسي اسميه "قصّة تروي وتصف الموت". تشنجت عضلات وجهي من الصدمة، وكأني أسمع صوت النسوية في داخلي تصرخ من الإحراج! هل سميّت الإجهاض موت؟ من أين جاء هذا الخطاب المؤيد للحياة؟ [2] هل هذه آثار باقية من التحيز الجنسي بداخلي، أحتاج للتخلص منها؟

تتالت الأفكار، وبدأت الإجابة تتشكل. منذ سنة واحدة، تلقيت تدريب إلزامي لأصبح مرافقة ولادة (دولا). وطوال السنة الماضية، كنت أصارع الشكوك والمخاوف حول مهنتي الجديدة. فـ الدولا تعطي تأكيداً، تؤمّن المساحة، تكن شاهدة، وتقوم بالخدمة. تبدو هذه المهنة وكأنها تحتفل بالحياة؛ حياة الطفل/ة بالطبع! لكن أهم من ذلك، فهي مهنة  تحتفل بالجسد الأنثوي الذي يحمل ويدعم ويغذي. مرة أخرى، وجدت نفسي أفكر في المشيمة المزروعة كـ بذرة داخل بطن ينمو.

شعرت بعدم ارتياح ولم أستطع تحديد جذوره، تذكرت شريحة PowerPoint من التدريب الذي تلقيته: كانت رسمة لامرأة حامل بجنين انثى وكان الشرح كالتالي:

بدأت حياتك على الأرض داخل جدتك. لا صدمة هنا، مجرد علم أحياء مُبسط: تُطور الجنين الأنثى كل البويضات التي ستحصل عليها عندما تكون لا تزال داخل جسد والدتها. كـجنين، امتلكت والدتك كلّ البويضات التي ستحتاجها داخل مبيضيها، وواحدة من هذه البويضات ستتطور لتصبح أنت. خلال الجلسة، تعجبنا من هذا الرباط الأنثوي الساحر والمقدّس العابر للأجيال؛ لقد عاشت الأخوات والعمّات معاً  في انتفاخ بطن الجدات. عشنّ. حياة.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

مرة أخرى، شعرتُ بعدم ارتياح، ولم أستطع تحديده. انفجر ذاك الخيال الحالم عندما علمت أن هذا الرباط المقدس لا ينطبق عندما يكون الجنين لجسم ذكر، أيّ أنّه لا يحمل المبايض ولا يحتوي على البويضات. تمكنت أخيراً من تحديد مشاعري عندما سؤلت : لماذا تسمين البويضة حياة؟ بويضة. بيضة. مضغة. جنين. طفل/ة. متى تصبح البويضة جنيناً ومتى نطلق على  الجنين اسم حياة؟

خلال العام الماضي، حضرت ولادتين، وكلما اقتربت من بداية الحياة، كلما فكرت بالطرق التي تنتهي بها. لم يساعدني أنّه بعد ثلاثة أسابيع من حضور أول ولادة لي، توفي والدي. رحلة الدولا الخاصّة بي كانت مليئة بالمطبات ولم أتمكن بعد من فهم تعقيداتها بالكامل. عندما حضرت الولادة الثانية، شعرتُ بوحدة هائلة. أكان شعوراً بالاختفاء؟ هل كان قلق بسبب عجز لا مفر منه لوظيفة حميمية للغاية، هل سيرافقني هذا القلق دائماً؟ فـ حضوري كدولا يجب أن يحقق توازن، أقدم الدعم ولكن بشكل يدع الأسرة تتخذ قراراتها؛ ادافع عن حقوق الأسرة وأذكرهم بها ولكن لا أتحدث نيابة عن أحد؛ أكون السند بغض النظر عمّا يحدث حول الحامل أو بداخلها. أحسست بمسؤولية أثقل من العادة. كي أبهج نفسي، عدتُ لبيتي، إلى دفتر يومياتي، وقرأت ما دونته بعد أول ولادة حضرتها:

شعرتُ أنه من الطبيعي أن أكون هناك، أن أكون موجودة هناك. شعرتُ بالكثير من الحنيّة تجاه الأم. وجدت نفسي أمسك بيديها وأطبطب على رأسها. رُسم على وجهها ابتسامة حالمة وبدت مصدومة عندما رأت طفلتها. أمّا أنا، فـأحسست بنعومة غامرة في اللحظة التي رأيت فيها هذا الكائن الصغير، مغطى بالسائل الدهني والدماء. هذا اليوم ذكرني بالحياة. الحياة ستستمر إذا كنت أنا هنا أو لم أكن. أريد أن أتذكر المشيمة.

في كل مرّة أفكر بمهنتي الجديدة، يعود ذهني إلى سحر المشيمة، ابتسم عندما اتذكر اسمها الآخر: شجرة الحياة. عضو يتطور مع الحمل، يلتصق بالرحم ويقدّم الحياة للجنين من خلال الأوكسجين والتغذية وأخيراً يموت مع نهاية هدفه، إنّه عضو يظهر ويختفي، مليء بالحيوية ومع ذلك  يتم التخلص منهُ عند نهاية وظيفته. أعتقد أنّه لا زال بإمكاننا التفكير بالمشيمة كـرباط مقدّس بين الأم والطفل/ة، ولكن من المحتمل رؤيته أيضاً كشكل من أشكال حب الحياة لنفسها في جميع أشكالها. فكّروا في حكمة المشيمة السحرية التي تجمع جسدين معاً ومع ذلك فإنها تبقي مسافة فيما بينهم، كـ كيانين مختلفين.

أفكر مرة أخرى فيما يعنيه أن أكون دولا نسوية، كـنسوية، أنا أسأل، أحلل وأتصور إمكانيات جديدة ووقائع أفضل. أمّا كـدولا، فأنا أدعم، أقدم مساحة، وأكرّم استقلالية الشخص الحامل واحتياجاتهمن.

كِلا الدورين يتطلبان التروّي ضمن نظام سريع يجردنا من انسانيتنا. لم أعد أصدق أنني حارسة لسرّ مقدّس ولا شاهدة على خلق حياة ما. ما زلت أعتقد أن دوري هو المرافقة وتقديم المساحة اللازمة للشخص الحامل، ليسمعوا أصواتهمن الداخلية ويثقوا بمشاعرهمن وأجسادهمن وحدسهمن، وأن أُمنح موافقتهمن في كل خطوة على طول الطريق. كونك دولا يعني ملاحظة التحولات في كلّ تنوعاتها وأشكالها.

الدولا لا يعملن فقط في حالات الولادة، بل يساعدن أيضاً في حالات الإجهاض العفوي والمقصود، وفي دور الرعاية، وخلال التغيرات الجنسية والجندرية. عندما يتم سؤالي عمّا يعنيه أن أكون دولا، إجابتي الجديدة ستكون: رفيقة.

---

[1] استخدام كلّاً من كلمتي "أنثى" و"امرأة" في النص هو للإشارة للدور الاجتماعي والثقافي والقيم المربوطة بالأدوار الجندرية. كدولا، أعمل وأدعم كل الأشخاص الذين يمكنهمن الحمل والتوليد.

[2] المؤيدة للحياة كمصطلح تأتي هنا في سياق الحملة الأميركية المنشأ المسماة بـ Pro-life، وهي حملة مناهضة للحق بالإجهاض من منطلق الحفاظ على "حياة" الجنين.

---

مريم ضيف الله هي كاتبة ودولا نسوية من مصر. هي مناصرة شرسة لتحسين الحقوق والصحة الجنسية والإنجابية، كما أنها تؤمن بالمتعة كنوع من التنظيم. نُشر عملها في جدلية، جيم، Asymptote، وEgypt Migrations.

تُرجم النص من اللغة الإنجليزي للعربية من قبل لين حذيفة.