يتجلّى لي البعد - قصة إجهاض ثلاث نساء لبنانيات

 قمنا بترجمة هذا النص، من الإنجليزية، عن مجلة بيروت الأدبية والفنية. تجدن/ون النص الأصلي هنا:

http://www.rustedradishes.com/the-distance-sinks-in-three-lebanese-women-on-their-abortions/


 

كرما

 

الإثنين: أُجري اختبار الحمل المنزليّ صباحاً.

أنقُر – خرائط غوغل. أَكتب: جمعّية تنظيم الأسرة، شارع بليكر.

رائع، حتّى ضابط الاستخبارات الذي يتقفّى نشاطي الإلكتروني يعلم الآن أنني حبلى. أوقات المواعيدِ وحلقاتُ بحثي الجزعة عن عياداتٍ متخصّصة ستُدوِّن، في مركز بيانات ما، حقيقةَ حَبلي: حقيقة غير قابلة للمحو، يَسهُل استرجاعها. خلالَ أيّام، سيتمّ استخدام هذه المعلومة لعرض إعلانٍ عن ملابس رُضَّع على شاشة حاسوبي عبْر الفيسبوك.

"لا تذهبي لوحدِك،" أسمعُ تقطّعاً في صوتِ صديقتي محذِّرةً إيّاي عبرَ الهاتف. تسكنُ هي في ريو دي جانيرو، وأنا هنا. أُغمضُ عينيَّ وأفكّر فيها. قد تكونُ في مطبخِ مكتبها، تنظرُ عبر النّافذة. أتصوّرُها تحدّق مطوَّلا في شارعٍ طويلٍ تكسو الأعشاب والأشجار الضّخمة جانبيه. لم يبق لي ممّن أحبّ أحدا هنا.

أتجوّل في الباحة بينما تُحدِّثُني، أحاولُ بشكلٍ مضطّربٍ أن تلتقي عيناي بعيونِ المارّة، سَعياً منّي للتّخفيف من، والتّعايش مع، الحزن داخلي. يتجلّى لي البُعد بيني وبين من أعرفهمن ممّن يجدن/ون ما أمرُ به أمراً معيباً، بل ربما مشيناً. أقولُ في نفسي، ي/تعيش بابا وماما في بيروت، أخي الأكبر في الدّوحة وجدّي وعمّاتي في صيدا، يمكنني القيام بهذا بمفردي. أستطيع التّعافي بمفردي وادّعاء أنّي لا أحتاج أحداً منهمن في سير هذه العملية.

تقولُ لي "أعلمُ أنّك انتقلتِ حديثاً إلى نيويورك، لكن كريم أيضاً هناك في زيارةٍ هذا الأسبوع، ربّما يمكنه مرافقتك؟"

 

بالفِعل، يرافقني كريم ذاك المساء، في منتصفِ وقتِ عطلتِه، يُقابلني عند زاوية شارع بليكر وبويري، نمشي إلى العيادة المجهولة. نتجاوزُ حارسَ الأمن، ترتسمُ على وجهه ابتسامة مُشفقة، عند مرورنا داخل جهازِ كشفِ المعادن، وصولاً إلى موظّفة الاستقبال التّي تجلسُ خلف لوحٍ زجاجيّ مضادّ للرّصاص. ينتظرُ كريم مع باقي الأصدقاء والأحبّة في صالة الانتظار؛ يحقّ للمرضى فقط الدّخول إلى العيادة.

مزيجٌ من الحركة والقلق يطغى على جوّ العيادة الغاصّة بالمرضى. ي/تنتظر أمامَ المِصعد شخص بضفائر سوداء طويلة. تمرّ أمامي شخصٌ بذراعين هزيلتين وجروحٍ عميقة بارزة بنّية قاتمة اللونِ في الكتف، لالتقاط منشور ما، بينما أتحدث أنا إلى الممرضة. يعجبني طلاء أظافرها الاصطناعية الفضيّ المائل إلى الزّرقة الدّاكنة.

 

تمرّ من أمامي  مجموعة من النّساء، ترتدي واحدةٌ منهمن حذاءً رياضياً رثاً وطِماقاً لشدّ السّيلوليت، أُخرى تنتعلُ حذاءاً جلديّاً طويل الرّقبة، تُحدثُ طقطقته إيقاعاً متوازناً. أشعرُ بالأمان هنا. إنه مكان لخدمة "العامة"، لا فئة محدّدة فقط. كما يحدثُ في قطارِ الأنفاق، الذي يمنحني شعوراً بالانتماء إلى مجتمع ما وبأنّي أستحقّ خدمة مشتركة.

صوتُ نقرِ أقدام وركب تهتزّ في صالات الانتظار، ارتقاباً لنتائج تحاليل الدّم وصور الموجات فوق الصّوتية. تارةً أشعرُ بالجُمود، وتارةً أخرى ينتابني شعورٌ عارمٌ بالحنوّ على النّاس مِن حولي. امرأةٌ تجهش بالبكاء، وجهها مدفونٌ بين يديها. أريدُ عناقها بشدّة. لا يبدو أنّ أحداً يكترثُ للأمر، لذا أَحذو حذوَهمن وأَلتزمُ الصّمت.

حانَ دَوري،

"بدّك تشوفيه؟" تسألني الأخصّائية. "كلا، كلا" أهزّ برأسي معبِّرةً عن الرّفض.

"اسمعي، ما زال الوقت مبكراً لاستخدام حبوب الإجهاض، فالتّصوير الصّوتي لا يُظهرُ شيئاً. سيتوجّب عليكِ القدوم غداً للقيام بجميع الإجراءات اللّازمة. هذه هي الطّريقة الوحيدة للتأكد."

أشرَعُ في البكاء، للمرة الثامنة في ذلك اليوم.

الثّلاثاء: أصِلُ في تمام السّاعة الثّامنة والنّصف صباحاً، لكن هذه المرّة، لوحدي. أمُرّ بمحاذاةِ رجلٍ يرفع لافتةً مكتوبٌ عليها "الإجهاض جريمة قتل، لا تقتلي طفلك. يمكننا المساعدة."  أتجاوزُ حارس الأمن بابتسامته المشفقة، عبر جهاز كشف الحديد، لجلسةٍ أخيرة. أشعر أنّ رأسي خاوٍ، جُلّ ما يشغلني هو إنهاء المهمّة الحاليّة. الإجهاض، فوراً. للمرة الأخيرة تسألني الممرضة عما إذا كنت متأكدة من قراري، أومئ برأسي موافقةً. شعرت بالحرارة وتدفق جريان الدم في جسدي وصولاً إلى عينيّ. أعود للبكاء مجدداً.

 

في الواقع، إن يقيني من رغبتي بالإجهاض لا تشوبُه شائبة. دونَ أدنى شكّ. إلّا أنّ هذا القلقَ الذي ينهشُ جسدي ويُثقل كاهلي ويزيدُني وَهَطاً لأنفجر بالبكاء مراراً وتكراراً، غيرُ مرتبطٍ بمشاعر ذنبٍ أو شكّ بصحّة قراري، بل بحقيقة أن هذا "الفعل" سيغيّر أشياءَ كثيرة. إنّ رؤاي النّظرية، السّياسيّة والنّسويّة لن تبقى مجرّدةً بعد الآن. سيصبح هذا جزءاً مني، وسيُحدِث تغييراً لا رجعةَ فيه بعلاقتي مع جسدي ومجتمعي. سأصبح شخصًا مشكوك بأمره وبأمر أخلاقياته في الأماكن التي اعتدتُ الشّعور فيها بالأمان، وسيرتفع سورُ منيعٌ آخرُ بيني وبين عائلتي ليؤكّد على اختلافي عنهمن ويجعلني بعيدةً كلّ البُعد عمّن يردنني/تردنني أن أكون. 

ينتظرُ العديد من المكتسين/ات بأردِيةِ المرضى أدوارهمن. تسيرُ الأمورُ بانتظام متناهٍ، وكأنّ الإجهاض أمرٌعاديّ جدّاً. يتصرّف طاقمُ العمل بكفاءة وتعاطف ولطف مع المرضى. فها همن ينتشلنني/ونني بعد 48 ساعةٍ فقط من نوبةِ هلعٍ تام. كم أحبّ عيادة تنظيم الأسرة.

التّحقّقّ من التّخدير الموضعي. خلال العمليّة كنت مستيقظة جزئيّاً، أربعُ نسوةٍ يهتمّن بي داخل غرفةِ العمليّات، يتحدّثّن بسرعةٍ لكن بهدوء، "ستؤلم قليلاً، لكن كلّ شيء سيكون على ما يرام."

 

أمضي بقية النهار برفقةِ ثلاثِ نساءٍ وبضعِ مكالمات هاتفية من بعيد. تُعيدُ غياتري ملءَ القنّينة بالمياه السّاخنة، الواحدةَ تلوَ الأُخرى، لتساعدَ في تخفيف الألم في أسفل بطني؛ تزورني إندالي ومعها بعض الحلويّات؛ أمّا لوريت فتُحضر طبقاً من البطاطا لوجبة العشاء كبادرةِ لطف مع أنّه لم يمرّ على معرفتي بهنّ ثلاثة أشهر.

في الغربة، حاولْتُ الحفاظ على قربي من أهلي عبرَ السّماح لأصواتِهمُن بالتّجول داخل ذهني. لكن اليوم، سأُخمدُ هذه الأصوات، فآخرُ ما أريد سماعه الآن هو صوت الأسى في قلوبهمن.

في المساء، أتلقى اتصالاً من العيادة.

"مرحباً، هل هذه كارما معي على الخط؟ نريدك أن تحضُري مجدّداً غداً لإجراء تحاليلَ دمٍ إضافيّة. لم نستطع التّأكّد من نجاح العمليّة، حيث أنّنا لم نتمكّن من رصد البويضة بعدها. نريدك أن تَحضري في الصّباح الباكر، إذ أنّ العيادة ستُغلق أبوابها غداً حتّى نهاية الأسبوع بمناسبة عيد الشّكر."

 

الأربعاء. أذهبُ لإجراء التّحاليل. مع أنّهمن وعدنني/وعدوني بالاتّصال بي لإطلاعي على النّتائج قبل إغلاقِ العيادة في فترة العيد، إلا أنّهمُن لم يفعلن/وا وأغلقن/وا أبوابهمن لأربعةِ أيّام متتالية.

أبكي طويلاً، على الهاتف وفي الحمّام، عند تكلُّمي مع مدرِّسي وفي قطار الأنفاق. إنّني منهَكة، أبكي بحرقة، ولست أكترثُ لعدد الأشخاصِ الذين/اللواتي يرَونني/ترينني أنشج. ذَرْفُ تلك الدموعِ المالحةِ بِحُرّيةٍ يمنحني شعوراً جيّداً. ألُفُّ ذراعيَّ حول صدري محاوِلةٍ وضع حدٍّ لهذا الألم المرير، وأشكرُ جسدي لاحتواءه إيّاي.

 

الأحد. أَصلُ إلى بيروت في نفس اليوم الذي تفتح فيه عيادة تنظيم الأسرة أبوابها، حيثُ يصادِف في هذا الأسبوع مناسبةُ زواج أحدِ أصدقائي، أكادُ لا أصدّق أنّني هنا. ولِتكتملَ عبثيّة هذه الرحلة، يتوقّف هاتفي عن استقبال المكالمات أو القيام بها حالما نهبط، ليتحوّل إلى قطعة طوبٍ لا نفع لها.

أسبوعٌ كاملٌ من القلق أُمضيه في بيروت، أدور في حلقةٍ مفرَغة. ماذا لو أنّ العمليّة لم تنجح، ماذا لو أنّه ما زال ينمو في داخلي. يتعاظَم الخوف ويمتد داخلي. أشعرُ بنبضِ قلبي في أجزاءٍ متفرّقةٍ من جسدي جرّاء الألم الذي أحسّه في ثديي. أتحسّس أسفل بطني أمام المرآة، أتفقّد ما إذا كان لا يزال بارزاً. أنظر للمرآة للمرة الألف، لم يتغير شيء. لم تنجح العمليّة، سيتحتّم عليّ إعادةُ العمليّة من البداية. أعاني من ضيقٍ في التّنفّس.

 الجمعة، بعد مرور أسبوعين. أعودّ إلى نيويورك، وهاتفي يعملُ من جديد. أخيراً، أعلمُ أنّ العمليّة بائت بالنّجاح. لقد انتهى الأمر فعلاً.

 

دينا

 

أفتحُ العلبة وأَنظرُ إلى كتيّب الإرشادات. كيف أستخدمُ هذا الشّيء؟ هل أُبوّل عليه مباشرةً؟ أم أستخدم كوباً؟

 في أقلّ من دقيقة، أَجلس على حافّة حوضِ الاستحمام و أتنَهّد بعمق. لم أتفاجأ في الواقع، فدَورَتي الشّهريّة منتظمةٌ دائماً. ومع ذلك، لم أكُن مستعدّةً لنتيجةِ فحصٍ إيجابيّة.

كنّا حذرَيْنِ دائماً، باستثناء هذه المرّة. مرّةٌ واحدة.

يدخلُ الحمّام ويجلسُ إلى جانبي، يلفّ ذراعه حول خاصرتي ونجلس بصمتٍ تامٍّ في شقّتنا الصّغيرة في دبَي. تمرُّ الدّقيقةُ وكأنّها ساعة. " سأدعم قراركِ مهما كان، أخبريني فقط بما تريدينني أنْ أفعل."  تماسَكي فحسب. 

أعلمُ تماماٍ ما أحتاج فعله. لقد مرّت صديقةٌ مقرَّبةٌ لي بنفس التّجربة منذ شهورٍ عدّة، وكنت قد ساعدتُها بالتّحرّي عن الأمر. حصلنا من صديق/ة بعيد/ة على رقم عيادةٍ مختصّة، الطّبيب فيها على استعداد للمساعدة، وقد رافقتُ صديقتي بنفسي إلى العيادة.

"إنّني بخير، حقّاً. وأعلم تماماً ما يجبُ عليّ القيامُ به،" أقول له.

 

أُراسل صديقتي المقرّبة وأطلبُ منها أن تحدّد لي موعداً في عطلةِ نهاية الأسبوع في بيروت. لا تعيدي الاتّصال بي رجاءً. لا أريد التّحدّث عن الموضوع بتاتاً، حتّى معها هي. لا أريد السّماح لعواطفي بالتّدفّق خاصّةً أنّي متأكّدةٌ تماماً من عدم رغبتي بإنجاب طفل. لا فائدةَ من ذلك. سأقومُ بما يتوجّب عليّ القيام به، سوف أصبّ تركيزي على الخطوة التّالية .خطوةٌ بعد خطوةٍ بعد خطوة.

الثلاثاء. تمرُّ علينا سيّارة الأجرة لتقِلَّنا من الفندق الذي أقيمُ فيه مع فريق العمل منذ ستِّة أسابيع في مَهمّةٍ لإشراكِ عميل. وبجدّيّةٍ تامّة، أُخبِر العميل الشّريك بضرورةِ قيامي برحلةٍ إلى بيروت والحصول على إجازةٍ لمدّة يومين للتّعامل مع مسألةٍ شخصيّةٍ عاجلة. معرفتُهُ بي تكفي لإدراك جدّيّةِ الموقف، دون أيِّ سؤال. اتّفقنا على كيفيّة إدارة تسليمات المشروع، لتغطية العمل في فترة غيابي، إذ أنّ الموعد المحدّد للتّسليم يحين في الأيّام القليلة المقبلة. هووه، مهمّةٌ أُنجِزَت. أرأيتِ؟ لم تكن بهذه الصّعوبة. تماسكي فحسب.

الخميس. نَجلس في السيارة أمام بوّابةِ المغادرين. " لقد طلبتِ منّي عدم مرافقتك، وأنا أحترم رغبتك. سوف يعني ليَ الكثير إن أبقيتني على علمٍ بالمستجدّات حالما تَطرأ."

أرُدّ بالموافقة. أعلم أنّ وجودَه إلى جانبي في بيروت، قلِقاً يطغى عليه الشّعور بالذّنب، لن يساعدني في تمالُكِ نفسي. نحن على سويّةٍ في اقتراف هذا الخطأ.  إلّا أنّ شخصاً لن يضطرَّ، بطبيعة الأمر، للخضوع لعمليّة إجهاض في حياته، لن يصل إلى فهم حقيقة ما سأمرُّ به. أُحاول التّخلصّ من هذا الشّعور المزعج بأنَّ ما أقومُ به هو ضربٌ من الأنانيّة، غيرَ أنّي أرفض أن أُلاقَى بعين الشّفقة أو أسأل باستمرارٍ عن مشاعري.

 

يساعدني في حمل حقيبتي الكبيرة وأجُرُّها أنا إلى الدّاخل. "سيّدتي، لاعتباراتٍ أمنيّة يتوجّب عليّ أن أسألك، هل أنتِ حامل؟" يسألني موظّف تسجيل الرّكاب. "كلا،" لا أقولُ الحقيقة. أمضيتُ الرّحلة بأكملها أحدّق من النّافذة، لمدّة ثلاث ساعات.

 

في المَساء، أَصلُ إلى منزل والدَيّ بعد هبوط الطّائرة مباشرةً، لا أُخبرهما بسبب وصولي قبل موعدِ رحلتي المتوقّعة بأسبوع كامل. لا فائدةَ من إخبارِهما، لن يتفهّما الأمر مهما حاوَلت. أقضي اللّيلة في غرفتي وأتظاهر أن أيّاً من هذا لم يحدث. 

 

يُشعرني القُرب منهما بأنّي طبيعية. ولكّنني طبيعيّة فعلاً.

 

الجمعة. ألتقي بصديقتي المقرّبة في الصّباحِ الباكرِ ونتوجّه معاً إلى العيادة. هذه المرّة الثّانية في حياتي التي أقصد فيها هذا الجزء من بيروت. ما تخيّلت أبداً أن تتكررَّ هذه الزّيارة.  تُميّزُنا القابلة، عند دخولنا إلى العيادة، من زيارتنا السّابقة التّي مضى عليها عدّة أشهر، وتُسرِع لمعانقتنا. تبدو نابضةً بالحياة بِشعرها الأحمر اللّامع. رائع! هذا ما أصبحتُ أُعرَف به الآن إذاً، أليس كذلك؟ وتَشرَع في إعطائنا خصماً على السّعر. فليقرصني أحدٌ ما.

 

بعد بضعِ دقائق، يدخل الطّبيب لإجراء التّصوير بالموجات فوق الصّوتيّة . يبتسمُ ونتبادل الحديث بينما يحضّر هو الجهاز. صوتهُ لطيفٌ لكن لا يخلو من الرّتابة. يشيرُ بإصبعِه إلى شاشةِ الجهاز ليُريني الجنين. لا أريد أن أراه. أَبتسِم بدافع اللّطف. يُخبرني أنّني بالأسبوعِ الرّابع من الحَمل، ويهنّئني. مبروك؟ ألا تعرف سبب قدومي إلى هنا؟ نَنتقل إلى مكتبه ويبدأُ بشرح الخيارات المتاحةِ أمامي مستخدماً تعابيرَ ومصطلحاتٍ طبّيّة، بصعوبةٍ أتمكّن من فهم بعضها، بعد البحوث التي أجريتها على غوغل. تمنّيت لو أنّني لم أفعل، الآن أعرف خطواتِ العمليّة والمخاطر التّابعة لها.

 

غرفةٌ بيضاء ناصعة، بأَرائك سوداء جلديّة تُدغدغ بشرتي. في النّهاية، ما تزالُ هذه العيادة غير نظاميّة تُجري عمليّاتٍ غير مسجّلةٍ أو معلَنة. لا توجد أيّ لوحةٍ أو علامةٍ على الباب، حتى أنّهمن لا يعرفن/ون اسمي الحقيقي. في حال حصول أيّ خطأ، لن يخضع أحدٌ للمسائلة. أشعرُ بتجمّد الدّم في عروقي.

يُخبرني الطبيب أنّ الحملَ غيرِ المرغوب به شائعٌ جدّاً في لبنان، وأنّه يقوم بهذه العمليّات بصورة مستمرّة. يَذكُر شيئاً عن حاجةِ مجتمعِنا للتّغيير، لكنّي لم أكن أنصت بإذعان. يريدُني أن أشعر بالارتياح، أظن أن هذا جزء من عمله، وقد نجح بالفعل.

يُطلعني على خيار آخر غير جراحيّ، وهو الحبوب. إلا أنّه من سابعِ المستحيلات أن أتناول حبوبَ الإجهاض بينما ي/تجلس والدايَ في الغرفة المجاورة. مستحيل. وماذا إذا لم تنجح؟ لا يمكنني المخاطرة بذلك، نظراً إلى أنّه يتوجّب عليّ العودةُ للعمل في غضون بضعةِ أيّام. أريدُ أن أتخلّص من هذه العبء بأسرع ما يمكن كي أتمكّن من مواصلةِ حياتي بشكلٍ طبيعيّ.

"سأخضع للعمليّة،" أجاوبه. "إنّي مستعدّة الآن."

 

أنتظر مع صديقتي في العيادة ريثما يصل أخصائي التّخدير. يمكنني سماعُ جريان حديثٍ بين الطّبيب والقابلة بينما يجهّزان غرفة العمليّات، إلا أنّي لم أتمكّن من فهم ما يقولانه. أستطيعُ أن أشتمّ رائحة الدّواء المطهِّر. المخصّص لي.

يصلُ أخصّائي التّخدير ويطرح عليّ أسئلة عن تاريخي الطّبي. سيقوم بإعطائي جرعةً خفيفةً من المخدّر حيث سأتمكّن من الإفاقة بعد عشْر دقائق تقريباً. لم أخضع للتّخدير مسبقاً، لا أستطيع مَنع نفسي من التّفكير بكلّ ما قد يطرأُ من خطأ خلال العمليّة. إلا أنه قد فات الأوان. إنّني خائفة، لكنّي أعلم أن هذا هو خياري الوحيد.

"حسناً، نحن مستعدّون/ات،" أسمعهمن يقلن/ون. أتمدّد على الكرسيّ و أمدّ ذراعَيّ.

" استرخي، لن يؤلمَك هذا،" يقولُ لي. أشعرُ بوخزة إبرةِ الحَقن وأُغمضُ عينَيّ. أستيقظ وصديقتي بجواري، "لقد انتهى كل شيء يا عزيزتي،" تقولُ لي.

لقد انتهى كلُ شيء. وأخيراً، أُطلق العَنان لنفسي بالبكاء.

 

سلمى

 

الأربعاء. أََقصدُ وأصدقائي/صديقاتي، مُمازحات/ين، الصّيدليّةَ بهدفِ شراءِ اختبارٍ منزليّ للحمل. ومن باب الدُّعابة، صرنا نفكّر بأسماء نُطلقها على الطّفل. "نور إذا بنت؛ جود إذا صبي،" أقول، وأنا بعيدةٌ كلّ البعد في بالي عن احتمال الحمل والإنجاب. أطلبُ من صديقتي المتزوّجة شراءَ الاختبار لي، ظنّاً منّا أنّ هذا سيساعد بإبعاد الشُّبهات عنّي في الصّيدليّة. أُجري الاختبار بعد فترةٍ وجيزة، متغافلةً تماماً العواقب المُحتَمَلة للنّتيجة. أُحدّق بعلامة الإيجاب، أقول في نفسي أنّ حياتي ستتوقّف هنا. تَخذلني رُكبتاي من شدّة الخوف، وأشعر بالإغماء. لن يبقى أيّ شيءٍ على حاله، والدتي ستقتلُني إن عرِفَت بالأمر. أتساءلُ عمّا إذا كانت حقيقةُ حَملي ستثير غضبها أكثر، أم الوسيلةُ التي سأختارها للخروج من هذا الموقف وبهذه السّرعة.

 

لقد مضى على علاقَتنا ثلاثُ سنوات، علاقةٌ تتّسم بالاستقرار والسّعادة؛ إلّا أنّ جزءاً مني كان واثقاً أَنَّ إخباره بالأمر سيقلِب الموازينَ رأساً على عقِب. ربّما يمكنني الانتظار قليلاً بعد، وإبقاءُ الأمور على حالها لمدّة أطول.

ما زلتُ اُحدّق باختبار الحمل، أخيراً أستجمعُ شجاعتي وأنقل إليه النّبأَ. مع مرورِ الثواني، أشعر أنّ الخبر يُثقل صدري أكثرَ فأكثَر.

فوراً، شَرَعنا في الاتّصال بجميعِ مراكز الصّحّة الجنسيّة في بيروت للاستيضاح عن الخطوات التّالية. أَعثرُ على طبيب جيّد وأحدِّدُ موعداً في اليوم نفسِه.

الجمعة.  1709. هذا أوّل رقمٍ يَِظهرُ على الشّاشة أمام الطّبيب. أَسألُه عن الرقم ويقولُ أنه مجرد مؤشرٍ ما. لم يرضيني الجواب، أعيد طرحَ السّؤال ويخبرني أنّه الموعد المُتَوَقّع للولادة. مُتوقَّع؟ لكّني لا أنتظر شيئاً! قد جئت إلى هنا لإنهاء هذا الحمل غير المرغوبِ به. ولِمَ يملك جنينٌ عمره ستةُ أسابيع موعداً متوقَّع؟

أُعيدُ إجراءَ فحصِ الحمل ثلاثَ مرّات، خلال الفترة الزّمنّية التي تَلي إجرائي الاختبار الأوّل وتسبِق الموعد المحدّد لدى الطّبيب، لعلّ النتيجة تأتي كاذبة. اتّضح لي فيما بعد أن هذا الأمر يكاد لا يحدث أبداً.

أزورُ الطّبيب للمرّة الثّانية بعد اكتشافي أمر حملي. لم ألاحظ تأخُّر دورتي الشهرية إلا بعد مرورِ أسبوعٍ كاملٍ من فوات ميعادها. كيف ألحظُ ذلك وأنا مُوقِنة تماماً أني لستُ حبلى؟ فأنا حذِرة دائماً.

الإثنين. أَستأذِنُ بالانصراف من العمل باكراً متذرّعةً بعذرٍ واهٍ وتُرافقني أختي إلى العيادة. أنتظر خارجَ غرفة الطّبيب، وأنا بحالةِ يقظةٍ مفرطة، تَجلسُ إلى جانبي ثلاثُ نسوةٍ حَبالى تعلو وجوههمن ابتسامةٌ مُربِكة. أنا حبلى وقد أتيت لِأُجهض. أنا حبلى وقد أتيت لِأُجهض، أنا حبلى وقد أتيت لِأُجهض. 

 

أَدخُل غرفة الطّبيب بعد دقائق عِدّة، يُبادر بالسّؤال عن حالي خلال الفترة السّابقة. "منيحة، رائعة، حبلى،" أُجيب.

"عليّ أن أُعيد طرح السّؤال عليكِ للمرة الأخيرة،" يُكمِل، " بدّك تخلّي الولد؟" 

أَتَسَمّرُ في مكاني. حتّى تلك اللّحظة، لم يخطر لي أبداً أنّني أملكُ خياراً آخراً. فعند اكتشافي للأمر، علِمت فوراً ما يجب عليّ فعله، دون التّفكير حتّى. أَجولُ بنظري في العيادة، حتّى يرسو على صورةٍ معلّقةٍ على الحائط لبعض المرضى وأطفالهمن حديثي الولادة، ثمّ على صورة أخرى بالتّحديد، لامرأة تحمل بيدها اختبارَ حملٍ بنتيجة إيجابيّة مكتوب عليها "طبيبي هو المنقذ!" أفكّر في قرارة نفسي  ربّما، يوماً ما، إن اخترتُ الإنجاب طَوعاً، أعلم أنّي قادرةٌ على ذلك، ولِبرُهةٍ، شعرتُ بالامتنان.

 

أَستحضِر سؤال الطّبيب مجدّداً لأذكّر نفسي بالغَرض من وجودي في هذه العيادة. أهمِس بصوتٍ خافت: "كلّا، لا أريد." أقولُ هذه الكلمات غير واثقة من رغبتي بسماعِها تخرُج من فمي أو حتى بسماعه هو لها. يَقوم بفحصي ويُخبرني أنّني ما أزال في مرحلةٍ مبكرةٍ من الحمل لا تُخوّلني بالقيام بالعمليّة، وأنّ إمكانية حدوث إجهاض ناقص ترتفع في هذه المرحلة. ويطلب مني القدوم مجدّداً بعد بضعة أيام.

 

 

الانتظار مضنٍ، أشعرُ أنّني مذنبةٌ لسماحي لهذا الأمر بالحدوث وأنه قد حدث بسبب طيشٍ وإهمالٍ مني. أكثر ما أرغب فيه الآن هو إنهاء هذا الحمل، العودةُ لتلك اللّحظة التي تسبق اكتشافي للحمل. كانت الحياة تبدو أقل قسوةً ولم أكن مجبرة على اتخاذ كل هذه القرارات المعقدة.

الثّلاثاء. أَدخُل البار لملاقاة بعضِ الأصدقاء، يعبَق المكان برائحةِ البيرة والدّخان المعتادة، هذه المرّة تُشعرني بالغثيان. أحاول التّصرّف بشكل طبيعيّ وأطلبُ فنجان قهوة. أتساءَل عمّا إذا كنّ/كانوا قد لاحظن/وا شيئاً.

أشعرُ بتيقّظٍ شديد. أضمّ بطني بذراعيَّ وأَستأذن لدخول الحمّام بين الفَينة والأخرى. أكذِب على جميع من حولي، أتذمّر بشأن أسبوعي المثقَلِ بالمهام. إلّا أنّ أيّاً من هذا لا يعني شيئاً، لا لهذا الشيئ الذي يوازي حجم حبة البازلاء الذي ينمو داخلي.

الجمعة، بعد أسبوعٍ واحد. السّاعة الرّابعة عصراً، يجتاحني شعورٌ مُلحّ وأَفقدُ القدرة على التّركيز. أقوم بتذكير نفسي أنّ موعدي يحين بعد أربعِ ساعاتٍ فقط.

في مساء يومٍ بارد من أيّام شهر كانون الثاني، يمرُّ الوقت وأُغادر العملَ مسرِعةً إلى العيادة برفقةِ صديقتي المقرّبة. يستقبلنا الطّبيب بابتسامةٍ ترتَسِم على مُحَيّاه دون طرح أسئلة عن وضعي الاجتماعي ودون إطلاق أيِّ أحكام. يزداد شعوري بالارتياح.

 

"هُون، 0.46 سنتيمتراً،" يقول الطبيب.

"0.46؟ شو هو؟" أردّ بِحيرة.

" طفلُك، شفتيه؟" يقوم بسُؤالي.

"أجل يمكنني رؤيتُه."

لكنّي لم أستطع رؤيَته.

 

أشعرُ وكأنّي رايشتل، بواحدة من حلقات مسلسل فريندز، عندما تكذب بشأن رؤيتها للجنين على شاشة الجهاز فقط لتبدو أُمّاً جيّدة. أفهم شعورها الآن.

في الوقت المتبقّي من الموعد، ناقشنا خيارات الإجهاض المتاحة أمامي؛ المكان والزّمان والطريقة. أَختارُ الطّريقة غير الجراحيّة، بما أنّها أقلُّ اختراقاً. أقومُ بشراء الحبوب بوصفة طبّيّة. كنت قد أمضيت الأسبوع الماضي أطلع على كل مقال وشهادة، حول الإجهاض، موجودة على الإنترنت. تجاربُ صادمةٌ، هذا جُلُّ ما عثرتُ عليه. كل ما استطعت إيجاده هو تجاربُ أليمة لم يستطعن/يستطيعوا التّعافي منها. كتب البعض عن الإصابة بعدوى أفقدتهمن القدرةَ على الإنجاب.

أقومُ بطرحِ الكثير من الأسئلة على الطّبيب، حول الجُرعة المناسبة، إرشادات استخدام الأدوية وعن أيّ مضاعفاتٍ محتَمَلة يجب الإطّلاع عليها. يجيب على جميع أسئلتي باطمئنان، بينما أجلس في مكتبه بيدين باردتين كالثّلج، وأنا أرتعش خوفاً من أي خطأ قد يطرأ، وأنا مدركة كلّ الإدراك لأهمية هذا القرار وأثرهِ النّفسي والجسدي عليّ.

أعودُ إلى المنزل وأقومُ مدفوعةً بِحُكم الواجبِ بتناول الدّفعة الأولى من الحُبوب. ما لبثتُ أن تناولتُ الدواء حتى أصابني دوارٌ شديدٌ ودوخة، وكأنّ جسدي يعلم ما ينتظره. أَستمِرُّ على هذا الوضع لساعات، تبدأُ الأوجاع مع بداية الإنقباضات، وتَنحسِر مع ظهورِ مفعول الحبوب المسكّنة.

لم تكن الفترة التّالية مصحوبةً بالأعراض، ما عدا دورتي الشّهرية التّي استمرّت لفترةٍ أطولَ من المعتاد وانقباضات مصحوبة بأوجاعٍ حادّة.

 

كارما

 

لم تُسوِّل لي نفسي مواجهةَ الألم الذي اختبرتُه إلى حين كتابتي هذه الكلمات.

كنت متكتّمة حول تجربتي مع الإجهاض، كما أنّ أحداً لم ي/تشاركني تجاربهمن قطُّ. كنت في الخامسة والعشرين من عمري، كنتُ أجهل ما إذا قد خضعت، إحدى النساء اللاتي أحب، للإجهاض من قبل. كنت لِأجد العزاءَ في شخصٍ ي/تخبرني أنه/ا اختبرَ/تْ هذا الموقف بالفعل، وأنّ كلّ شيء سيكون على ما يرام.

ضاقَ أَلمُ العزلة بي ذَرَعاً فارتأيتُ التفكير بنساء أُخرياتٍ، من معارفي. لن أُريد لهمن أن يَخُضن هذه التّجربة وحيدات. ما أفظع أن أنازع العار وحدي. تحوّلَت تجربتي إلى التزامٍ سياسيّ. وصرتُ على استعدادٍ للتّحدث عن الإجهاض جَهراً، أو على الأقل، عندما ي/تسألني صديق/ة عن أحوالي، سأجيب، بكل صدقٍ وشفافية، أنّني أعمل على تلطيف كلمة "إجهاض." ما زلتُ أتساءَل على أيّ حال، كم ي/تستطيع الفرد أن يضغط حتى يتم نبذه/ا من مجتمعه/ها العربي، المسلم، الشّيعي؟ وهل فقدتُ هذا المجتمع؟

أظنّ أن ما يدفعُني لإجراءِ هذه المحادثات مع الأصدقاء هي رغبتي بالعثور على أشخاصٍ مرّوا/مررن بهذه التجربة. وقد استطعت العثور على أربع نساء. على الرغم من أن جميعهن أكدن علي بقولهن: "رجاءاً، ما تخَبري حدا،" قد زوّدنني بأربع قصصٍ لأتمسك بهن. أُغمض عينيّ وأستمعُ إلى قصصهمن، من عمان إلى دبي وبيروت، ها أنا أشعرُ بالانتماء مجدّداً.

 

سلمى

يَلحَقُ الحمل غير المرغوب به شعورٌ باللامبالاة، الألم، العار والنّقد الذّاتي المستمرّ. تبدو المسافة شاسعةً بينك وبين من قد يطلق عليك الأحكام. إلّا أنّ الإجهاض، كفِعلٍ، بِغضّ النّظّر عمّا يرافقهُ من أعراضٍ جسديّةٍ مؤلمة، الإعياء الصّباحي والنّزيف لعدة أسابيع، يشكّل فرَجاً عظيماً. في الحقيقة، كان الإجهاض خياري الوَحيد ولا أعرف أيّ شخص كنت سأغدو عليها لو لم أَقُم حينها باتّخاذ هذا القرار.

أَحملُ هذه التّجربة معي أينما أذهب. أَعتقدُ أنّه أمرٌ قد أودُ مشاركته مع شركاء مستقبليّين/ات، وآملُ ألّا يغيّر شيئاً من نظرة الناس لي. مع أنّه يخطر لي، بين الفينة والأخرى، ما كانت ستؤول إليه الأحوال في عالم موازي لو كنت قد أصبحتُ أمّاً. إلا أن وطأة الذّكرى لم تعد بنفس الثّقل. أَستحضِرها في أحاديث السّهر بعد تناول عدة أقداح من المشروب. ما تزال حتّى الآن واحدةً من أقسى التّجارب التي مرَرتُ بها. وإن حظيتُ بابنةٍ قط، أريدُ أن أجري معها هذا الحديث. وإذا حظيت بابنٍ، سأحدّثه أيضاً عنها. عاهَدتُ نفسي ألّا أدَعها تحدّد ما أنا عليه، إلّا أنّني، وبفضلِها، غَدَوتُ أقوى.

 

دينا

هل كنتُ سأختار الإجهاض لو كنتُ متزوّجةً حينها وأستطيعُ إعالة طفلي؟ بعد عدّة سنوات، وقد أصبحتُ في الثّلاثين من عمري، أعودُ بالذّكرى وإلى جانبي زوجي الآن وشريكي عندها. جوابي هو: نعم. كنتُ أملِك حرّيّة الخيار، وما زِلت. لا تُحدِّد تلكَ التجربةُ من أكون، فقد كان الخيار سهلاً آنذاك.

أَعرفُ ما أريده وما الأفضلُ لي. لا أحد مخوّلٌ لاتّخاذ هذا القرارعنّي، لا شريكي، لا عائلتي، لا مجتمعي ولا بلدي. يُمارِس المجتمع عليّ ضغوطاتٍ بصورةٍ دائمة، كَوني امرأة، كَي أُبرّر أفعالي. ويعودُ لهمن أمرُ البتّ في صحّة قراراتي. ما زلتُ أجدُ صعوبةً في التّحدّث علناً عن تجربتي مع الاجهاض، سيسألوني/يسألنني عن السّبب. أُدرِك الآن أنّي لست مضطرةً لتقديم أَعذار. فقد علِمت فحسب، أنه الخيار الأنسب.

أُدرِكُ الآنَ، أيضاً، أنّي كنت محظوظة. كنتُ محظوظةً لنجاحِ العمليّة، محظوظةً لعدم حدوث مضاعفات، محظوظةً لامتلاكي المبلغ الكافي لإجراء العمليّة، محظوظةً لامتلاكي صديقةً تعرف ما ينبغي فعله وكيف تساعد. كنتٌ محظوظة.

 

وحتى هذا الوقت، ما زلت أعاني من حقيقة أن ليست جميع النّساء محظوظات.

 

دينا

هل كنتُ سأختار الإجهاض لو كنتُ متزوّجةً حينها وأستطيعُ إعالة طفلي؟ بعد عدّة سنوات، وقد أصبحتُ في الثّلاثين من عمري، أعودُ بالذّكرى وإلى جانبي زوجي الآن وشريكي عندها. جوابي هو: نعم. كنتُ أملِك حرّيّة الخيار، وما زِلت. لا تُحدِّد تلكَ التجربةُ من أكون، فقد كان الخيار سهلاً آنذاك.

أَعرفُ ما أريده وما الأفضلُ لي. لا أحد مخوّلٌ لاتّخاذ هذا القرارعنّي، لا شريكي، لا عائلتي، لا مجتمعي ولا بلدي. يُمارِس المجتمع عليّ ضغوطاتٍ بصورةٍ دائمة، كَوني امرأة، كَي أُبرّر أفعالي. ويعودُ لهمن أمرُ البتّ في صحّة قراراتي. ما زلتُ أجدُ صعوبةً في التّحدّث علناً عن تجربتي مع الاجهاض، سيسألوني/يسألنني عن السّبب. أُدرِك الآن أنّي لست مضطرةً لتقديم أَعذار. فقد علِمت فحسب، أنه الخيار الأنسب.

أُدرِكُ الآنَ، أيضاً، أنّي كنت محظوظة. كنتُ محظوظةً لنجاحِ العمليّة، محظوظةً لعدم حدوث مضاعفات، محظوظةً لامتلاكي المبلغ الكافي لإجراء العمليّة، محظوظةً لامتلاكي صديقةً تعرف ما ينبغي فعله وكيف تساعد. كنتٌ محظوظة.

 

وحتى هذا الوقت، ما زلت أعاني من حقيقة أن ليست جميع النّساء محظوظات.