الأمومة في آخر النفق

 

"عمري ٢١، شو مالك لي بدّي فكّر بالولاد هلق؟“ هكذا جاوبني صديقي - الذي يكبرُني بعام - باستهزاء أردفهُ باستغراب عندما لمسَ الوضوح والجدّية على ملامحي.

حصل هذا ضمن جلسة شبابية غير رسمية لنا، في مقهى، وصديقتين. كنّا قد تناولنا في أحاديثنا مواضيع كثُر تنوعت بين الساخر منها، و الجدي. ولكن لم يستفزني لسؤال صديقي و بشكلٍ مباشر من مجموعة المواضيع هذه سوى الإنجاب، فالثقل الذي شعرتُ به ولم ألمسهُ عنده إضطرّني لذلك.

مرّ الموقف بشكلٍ عابر حينَها، فقد تمكنتُ من توجيه الانتباه إلى موضوعٍ آخر. ولكن، المسألة لم تغادرني، وبقيتُ أعيدُ سيناريو المحادثة في رأسي عشرات المرات، محاولةً إيجاد سر ردة فعل صديقي.

بعدها بأسبوع، لمعت تلك الحقيقة التي لم أكُ أعرف أهميتها في هذا المِعرض. أنا امرأة وهو رجل، وكفى بذلكَ تفسيراً أولياً لمَ حصل.

من وقتها وأنا أحاول العودة إلى كل الأفكار والحوادث التي ساهمت في جعل أمور الإنجاب - في عمري هذا - حديثاً طبيعياً لي.

أهوَ ضغط أمي غيرِ المباشر، عبر مزحها المتكرر، المتعلق بجعلها جدّة قبل الخمسين - أمي تبلغُ من العمر ستةٌ وأربعين عاماً؟ أم هو كلام جارتي التي تحاول أن تقول لي بأنّي أصبحتُ جاهزة منذُ بلغتُ الثمانيَ عشرَ سنة؟

أم هوَ تصوير الجميع - إلّا قلّة - لأجساد النساء على أنها ماكينة إنجاب منذُ بلوغها؟ أيكونُ التقديس لمهنة الأمومة الذي يمدُّ النساء بشرعية معينة لا تحصلُ عليها طيلة حياتها، إلّا إذا أرادت أن تجعل الجنة تحت قدميها؟

تعاني النساء من التهميش لآرائهنَ واحتياجاتهنّ في معظم أوقات حياتهنّ، لا مقعد لهنّ على "الطاولة"، وما يمثّل حاجة للمرأة ولكن لا يتشاركُ الرجل معها فيها، تلقائياً تصبحُ في نهاية اللائحة، لا تُفهم استقلالية المرأة حتى في حدود كيانها الشخصي واحتياجاتها، في المعادلة، دائماً ما تكون "هيَ" جزء من "هم" بطريقةٍ ما.

لا ينلنَّ استحقاق وجودهنّ كإنسان، إلّا في حال تقديمهنّ لخدمةٍ معينة في المقابل، وكأنما يُحتّمُ عليهنّ البقاء في حالة العطاء هذه، والتضحية تلك، حتى يبقى الاحترام الأولي لكينونتهن.

فبتُّ أستعرضُ كل المواقف التي رفضتُ فيها الفرص التي تحيل دونَ جعلي أماً في المستقبل القريب. كلّ الخطط التي أدرجتُ معها، خطة ”ب“ ،في حال تزوجت و أنجبت، و كيفَ لمجردِ أنّي امرأة، في كل السيناريوهات، كنتُ سأصنعُ تلك التضحيات، لأنّ الأم، ليست أم صالحة دونَ ذلك، على الأقل هذا ما ترسخَ و ترسبَ عندي من أحاديث معظم النساء اللواتي لا يمنحنّ أنفسهنّ أو غيرهنَ التقدير الكافي إلا في حال ذوبان كل صفاتهنّ في الصفة الوحيدة و الأهم - أُم، ولأنه يُفترَض منّي البقاء في المنزل والرعاية للأولاد المرتقبين.

أما الطرف الآخر في هذه المسؤولية - أقولُ طرف، لأنه يُفترض كونه كذلك، وإن لم يكن، حقيقةً - فهوَ معفيٌ من هذه الجلبة والأفكار السابقة لمرحلة إنجاب الأطفال. أكادُ أنفي حصول موقف واحد فقط، تكلمَ فيها رجلٌ عن أحلامه أمامي، وقيل لهُ بإعادة تشكيلها لتتناسب ودور الأبوة الذي عليه أن يضطلع به، مستقبلاً. بل على العكس، فيُثنى عليه إذا ما قررَ أن يصب تركيزه وجل اهتمامه على وظيفته ومكانته في المجتمع، ويُتم تشجيعه، وببساطة تُخلق له، احتمالات جديدة تتناسب ووضعه، تفيدُ بإكماله هذه المسيرة، تختفي فيها الأسئلة المتعلقة بإكمال نصف دينه أو وجود الوريث لهُ. ببساطة، لا يُتوقع من الرجل أن "يعقَل" قبل سن الثلاثين، فكيفَ بهِ أن يكون ربّ منزل؟

كلما فكرتُ في الموضوع، كلما سهلَ عليّ لمسُ أطرافه وصعُب على حالي. أنا في العشرين من عمري، ولكنّي امرأة ولمجرد كوني كذلك، لابدّ لي من أن أقوم بالتعديلات التي ستتناسب وكوني أم، حتّى قبل زواجي!

لم أعد أقارب ردة فعل صديقي بذات الاستهجان، فقد فهمتُ الامتيازات التي تأتي منها، وعلمتُ كيفَ تُموْضعنا المنظومة الأبوية، وكيفَ يحافظ على ذلكَ المجتمع الذكوري. هذا المجتمع الذي يصبّنا في قوالب جندرية نمطية، تصحبها ثلة من حقوق وواجبات، لا يُحبذُ لنا، الخروج عنها، بصراحة لا يُسمح، حتّى!

يقوم الأخير، بحصرِ دور الرجل في كونه جالب المال الوحيد أو الأساسي للعائلة، ومن هنا يُفهم سبب القبول الواسع والواضح لاستكمال الرجل مسيرته. بطبيعة الحال، كلما نجحَ في جمع المال، كلما ساهم بتحقيق المطلوب منه، بالتالي استحق الرضى الكامل.

على المقلب الآخر، وتلقائياً، ستُنسَب جميع المسؤوليات والواجبات غير المادية للمرأة. فلا تُرى خارج سياق الدور الرعائي، أو التربوي، فماذا قد يفيدها أن تكمِل ما تريده هيَ؟ كل ما لا يفيد الأطفال أو عملية تنشئتهم، لا يُعوّل عليه، ولا يستحق درجة الواجب، قد يُكره حتى.

فيما ستكون الأولويّة لكل ما يراكم لها، بجعلها "أم" أفضل، وليس "إنسانة" أفضل. فالمرأة، وإن لازالت في بداية عمرها، كمثلي، لا تُرى، إذا ما ارتبطَ وجودها بشيء خارجي، ولا أهمية لذاتها المنفصلة عن كيانهم.