أنطولوجيا جزّ الشعر

كتابة لبنى علاء

"في الليلة التي قررت فيها عنايات أن الحياة غير محتملة. تركت ابنها مع أمها في 16 شارع عبد الفتاح الزيتي بالدقي، وخرجت في المساء وهي لا تعرف ماذا تفعل بنفسها، مشت بعض الوقت، مرت على مسار المعروفة بمدام النحاس رغم أنها ليست من أسرة النحاس. كانت طبيعية وهادئة وشعرها مقصوص لتوه حتى ظنت مسار أنها قادمة من صالون حلاقة. كلمتها أمام الباب ولم تدخل، تحججت بأن لديها موعدًا، رجعت البيت وصعدت لشقتها في الدور الثاني على أطراف أصابعها كاللصة، لم يكن أحد معها عندما أخذت العشرين حبة وردية..."

في كتابها "في أثر عنايات الزيات" تحدثنا إيمان مرسال عن اللحظة التي تقرر فيها المرأة قص شعرها، وتدعو للكتابة عن هذه اللحظة لتكوين أنطولوجيا جز الشعر. حين رحلت عنايات الزيات عن عالمنا كانت قد خرجت للتو من طلاق أنهك قواها وكانت قد يئست من انتظار نشر روايتها الأولى والوحيدة المكتملة "الحب والصمت". رحلت وهي تشعر أن الحياة غير محتملة، وآخر ما فعلته قبل أن تقدم على الانتحار هو قص شعرها، ربما كانت تحاول الانتماء، أو تحاول الشعور بشيء ما بعد أن أنهك الاكتئاب حواسها.

منذ خمس سنوات رحلت للدراسة في الجامعة، كنت أعاني كثيرًا، الحياة الجديدة والوحدة والمناهج الدراسية التي لا استطيع اللحاق بها والاكتئاب الذي بدأ يتسلل لعقلي،  كنت أقف أمام المرآة كثيرًا أتفقد شعري بدون سبب  ثم أصبح قصه ملحًا جدًا فتناولت المقص وقصصته أقصر من أي وقت سابق وكنت أسعد ما يكون. شعرت بالقدرة على السيطرة على شيء ما، شعرت بأنني أملك شيء ما ولي حرية التصرف به، كان شكلي مروعًا بأطراف غير مستوية ولكن كنت أملك شيئا.

بعد ذلك بسنتين كنت عالقة في علاقة ميتة، كنت أكرهها وأكره نفسي لأنني مازلت متمسكة بالأمر. في يوم كان لدينا موعد وقد تأخر علي ساعة ونصف فذهبت لأقرب صالون وطلبت من الكوافير أن يقص لي شعري وحين سألني أي قصة أريد لم أعرف وجلست أفكر، لم أخطط لأي شيء قبل ذهابي للصالون. كنت أريد فقط أن أفعل شيء ما يلهيني عن غضبي الشديد وأقرب شيء جاء في بالي هو أن أقص شعري، أي تغيير يلهيني عن جبني في تغيير آخر جبنت عنه كثيرًا.

في فيلم "بنات وسط البلد" تقوم منة شلبي بقص شعرها في يوم تركها لمنزلها لتبيت في الصالون التي تعمل به وحين يذهب إليها أخوها تعطيه ما قصته من شعرها وتحمله رسالة: قول لأمك انها خلفت راجل. كانت تريد أن تثبت لأمها ولأخيها انها ستفعل ما تريد، وكانت تريد أن تثبت لنفسها انها تملك شيئًا، شيء لا يشاركها أحدا فيه حتى أقرب صديقاتها التي لم تأخذ برأيها هي التي تفعل معها كل شيء.

نظرات الذكور في الشارع مرعبة، والمرعب أكثر احتمالية أن تطور تلك النظرات للمسة أو مسكة. أعاني من قلق شديد، لذلك لي طريقة سير متحفظة، لا أرفع عيني عن أسفلت الطريق ولا تبطئ قدماي إلا حين أصل للمكان الذي أقصده. لا أملك الكثير من نفسي حين اسير في الشارع، فكل واحد يسير من حولي يظن أن له سلطة علي، إما سلطة دينية إما سلطة جندرية، وبعضهم يحاول فرض تلك السلطة لاعتقاده اني انتمي للحرملك المزعوم، لذلك يكون ملحًا علي أن أكون أكثر شبهًا بالصورة التي أتخيلها لنفسي في عقلي، وان كنت لا أقدر أن أكون كذلك في الشارع بحرية فعلى الأقل تحت هذا الحجاب شعر تم قصه على هواي الخاص، حتى يأت اليوم الذي أملك فيه أشياء أكثر، حرية المظهر والقول والفعل والغضب. أنا هنا، وهذا الجسد ينتمي إلي.