نستحقّ أن نكون هنا

النص التالي ترجمته ليال سبلاني من صفحة Diary of a Queer Refugee، وقد كُتِب بعد إنتحار الكويرية اليسارية سارة حجازي.

الرسمة المستخدمة من صفحة @bbyanarchists على إنستاغرام.

تنبيه محتوى: إنتحار

 

 

 

 

 

 

 

 

يرن هاتفي.

أُجيب عليه. يأتي صوت صديقي عبر التّكنولوجيا التي اِخترعناها للسّماح لنا بالتواصل دون أن نكون جسديّاً في نفس المكان. الجملة الأولى التي يقولها لي: "هل أنتَ على قيد الحياة؟"

على مرّ السّنين، وفي كلّ مرّة رأيت هذا الصّديق، أصبح أكثر نحافة وأقلّ حيوية. آخر مرّة رأيته فيها، كُنّا نجري محادثة طويلة في منتصف اللّيل حول هذه الحياة التي لا نعيشها والتي لا حياة فيها.

_________________________________________________

أتّصل بصديقي.

أسأل: كيف حالك؟

يجيب: أنا أقرأ التّعليقات على وفاة سارة.

إنّه نفس الصّديق الذي كنت معه على الهاتف قبل بِضعة أسابيع والذي أخبرني عن شخص نعرفه من مجتمع الميم قد أتى مؤخّراً إلى كندا قد انتحر قفزاً من الطّابق الخامس عشر.

قال: أتسائل، أهذا شيء قد أفعله بنفسي؟ كيف شعر صديقي في تلك اللّحظة وهو يسقط؟

_________________________________________________

يرنّ هاتفي مرّةً أخرى.

قالت: مرحباً.

قلت: أنتِ تريدين أن تعرفي إنْ كنتُ ما زلت على قيدِ الحياة.

تضحك وتقول نعم.

الصّديقة التي دخلتْ المُستشفى مرّتين في الشّهر نفسه. أعلم أنّ ألمها عميقٌ جدّاً وأتساءَل عمّا إذا كان أيّ شيء قد أقوله يجعلها تشعر بتحسّن. قالت أريد من النّاس أن تتذكّرني بصورٍ سعيدة إذا مُتْ.

أرجوكِ إبقي معنا هنا، أتمنّى ذلك في قلبي.

_________________________________________________

أتصّل بصديقة لي.

أسألها: كيف حالك بعد الجراحة التي قُمتِ بها؟

تجيب: أنا بخير ويسعدني أنّه عندما أعود إلى تورونتو سأكون في منزل النّساء الآمن مرّة أُخرى. فهن يعتنين بي ويستمعن إليّ. لماذا لم تضعني الحكومة هناك عندما جئت إلى كندا منذ البداية؟ لماذا كان عليّ أنّ أسقط وأكون على وشك الموت للحُصول على هذه الرّعاية؟

الصّديقة التي أتت إلى منزلي في الثّالثة صباحاً بكدمةٍ زرقاء على عينها. كانت قد استقلّت الحافلة لمدّة ثمان ساعات في منتصف اللّيل وهي تهرب من رجلٍ يحاول الإتصال بها. لقد عرفتها منذ ستّ سنوات، ولم تكن هذه المرّة الأولى التي تأتي فيها أو تتّصل بي لتقول لي أنّ أحد الرجال ضربها أو حاول قتلها.

_________________________________________________

يرنّ هاتفي مرة أخرى.

يقولون: اليوم، كنت أسير في الشارع وأوقف رجل عربيّ سيارته، ليفتح نافذته ويقول لي "كسّ أُمّك".

الصّديق.ة الذين وصلوا إلى كندا عندما كانوا في سنّ المراهقة. تعرّضوا للضّرب ثلاث مرات خلال الأشهر الأولى هنا.

_________________________________________________

يرنّ هاتفي مرّة أخرى.

تقول لي: أريد أن أقتل نفسي.

الصّديقة التي اختفت الصّيف الماضي ولم يتمكّن أحد من العثور عليها. أخذتُ بعدعا الحافلة مسافة ثمان ساعات إلى تورنتو كان رأسي يردد خلالها: "أرجوكِ كوني حيّة". في كلّ مرة نخرج فيها نتعرّض للتّحديق والمُضايقات اللّفظية. هذه هي حياتها اليومية. مُطاردة أو ملعونة.

_________________________________________________أتصل على صديق.

أسأل: كيف تشعر اليوم؟

يجيب: أنا أفضل ولكن..

الصّديق الذي وصل إلى كندا مجرّد بضعة أشهر قبل إعلان الإغلاق. اعتاد على قراءة كتاباتي ولم يكن يستطيع أن يفهم لماذا أشعر بالحزن إذا كنت أعيش في كندا الآن. كنت أجيبه دائماً بأنّه عليه الإنتظار حتى يصل إلى هنا. انتظرت ذلك. القنبلة التي لا يعرف أنها تنشط بمجرّد وصوله إلى هنا. رأيت وجهه يقلّ حيويّة كلّ يوم. سألته: هل بدأت تُصاب بالكوابيس؟ أجاب بنعم. سكر مرّةً وبدأ بالتمشي ليلاً في الشوارع. بحثت عنه فوجدته مُستلقياً في منتصف الشّارع وشكرتُ الكونَ أنّ سيارةً ما لم تدهسه.

_________________________________________________

اتّصل بهاتف صديقة.

أسأل: ما الذي تفعلينه هذه الأيام؟

تقول: أنا في المنزل طوال الوقت. يعتقد النّاس أنّني غريبة لأنّني سعيدة كونه أُتيحت لي الفُرصة لأكون في المنزل طوال الوقت بسبب الوباء.

الصديقة التي تعيش في بلدٍ آخر وتخاف من مغادرة المنزل بالرغم من لجوئها إلى بلد أكثر أماناً.

_________________________________________________

اتّصل بهاتف صديق.

يقول: جاري العنصري يعطيني باستمرار نظرات قذرة في كلّ مرة أدخل فيها المبنى. أحضرتُ التّقرير الذي أعطاني إياه الطبيب النفسيّ. رميته في وجهه وصرختُ به قائلاً إنّني مكتئب ولا أريد أن أكون في هذا البلد أيضاً ولكن ليس لديّ مكان آخر أذهب إليه.

الصّديق الذي يلتقط صوراً سعيدة تملأ وسائل التواصل الإجتماعيّ الخاصّة به ولكنّه يبكي كثيراً عندما يكون بمفرده.

_________________________________________________

أرنّ هاتف صديقة.

تقول: أحاول ألّا أغادر المنزل إذا لم أكن بحاجة لذلك. منطقتي مليئة بالعرب ولا أريد أن أٌضرب.

الصّديقة التي قضت الشّتاء في شوارع تورونتو غير قادرة على الحصول على المُساعدة بسهولة لأنّها تتحدّث العربيّة فقط.

_________________________________________________

أرنّ هاتف صديقة.

تقول: تعرّضت صديقة للضّرب المُبرح وتُرِكت في الشّارع بدمِها. لم تستطِع التّحمّل لذا أنهتْ حياتها بعد عودتها إلى المنزل.

الصديقة التي تلهي نفسها عبر القيام بالكثير من أجل الآخرين محاوِلةً مساعدتهم.

_________________________________________________

أتصل بصديق.

يقول: جائحة أم لا. أبقى في المنزل من أجل سلامتي، فلا يوجد فرق فعلياً.

الصّديق الذي يفهمني عندما أقول أنّني لا أغادر المنزل إذا لم أضطّر على ذلك، ولا أريد المغادرة.

_________________________________________________

يرنّ هاتفي مرّة أخرى.

تقول: كما تعلم، كنت في المترو عائدة من عملي في المستشفى اليوم. نظرت إلى رجل مع حبيبته. تساءلت لماذا لا يمكنني الحصول على ذلك. لماذا وجدت فقط لِممارسة الجنس والمُتعة وووجدت هي للوضع الجدّي. فقط لأنّ لديها مهبل ويمكن أن تعطيه أطفالاً؟ لماذا يعاملني النّاس بِقرف في المُستشفى رغم أنّني أحاول مساعدتهم خلال هذا الوباء.

الصديقة الذي أخبرتها أنّ ليس كلّ الرجال من الأقليات سيّؤون. ثمّ تعرّضتْ للّسبّ في حين كنت معها في وسط الشّارع بعد دقائق قليلة من قِبل مجموعة رجال من أقليّة معيّنة. بسبب حدوث ذلك معها بشكل يومي، يصعب عليها الحصول على الطاقة والمساحة لِتحليل سبب وجود سلوكيّات عُدوانيّة تُطلَق علينا من مجتمعاتنا ومن مجتمعات الأقليّات الأُخرى. أغلق فمي والتقيتُ بصديقتي في المكان الموجودة فيه ضمن طاقتها بدلاً من إلقاء المحاضرات عليها. أشرح لها الأشياء بلطف في الوقت المناسب بقصّة يمكن أن تشعر بالارتباط بها.

_________________________________________________

لقد كان أسبوعاً من المُكالمات دون توقف مع أصدقائي من مجتمع الميم والمُهاجرين العرب واللّاجئين عبر كندا وأوروبا والأصدقاء العالقين في الشّرق الأوسط في بُلدانهم الأصليّة أو البُلدان الخطرة التي فرّوا إليها. مشاركين ما حدث لهم في الماضي أو ما يحدث لهم الآن. كلّنا نفكّر في ذلك وليس من الضّروريّ بصوتٍ عالٍ. من التّالي/ة؟ أنا؟

كنت هناك في وقتٍ ليس بِبعيد. نظرت إلى إنعكاسي على نافذة المِترو. إنزلقت صورة إلى ذهني. رأيتُ نفسي. كان يتم إدخالي خلسةً إلى سيارة الشّرطة. أخذني ضابط الشّرطة من مركز الإعتقال لِفترة وجيزة إلى مكانٍ يمكن فعل أي شي بي فيه. عدتُ إلى الحاضر مصدوم لإنّني نسيتُ أنّ ذلك حدث لي فعلياً. لقد نسيت وكأنّه تمّ سلخ ذلك من ذاكرتي وعاد فجأةً. خفت. ما المُخبّأ هناك أيضاً؟

عندما جئت إلى البلد لأولّ مرّة، كنتُ أرى كوابيس شديدة. الآن أراهم حتّى عندما أكون مستيقظاً.

بدأتُ بمواعدة شخصاً. تخانقنا. أنت تقضي الكثير من الوقت مع التّلفاز، قالت لي.

أشاهد التلفاز حتّى أفقد الوعي. لا أريد أن أُترك مع رأسي. لا أريد أن أتعامل معه. هناك الكثير من الطّاقة للتّعامل معه. ليس لديّ هذا النّوع من الطّاقة. لم أكتب منذ وقت طويل لأنّني لم أستطع. حتّى آخر أغنية ألّفتها كانت بدون كلمات.

قبل الوباء مباشرة، اتصلت بالخطّ السّاخن للإنتحار لأوّل مرة منذ وصولي إلى هذا البلد. كدت ألقي نفسي أمام القطار. شعرتُ بالخوف وتجنّبت محطات المترو لِفترة من الوقت. أصرخ في رأسي على لحظات الضّعف، تلك التي قد تكون النّهاية. أصرخ عليها أنّني أريد أن أكون في هذا العالم، أستحق أن أكون هنا، حاربتُ لأكون هنا.