الساحرات والقابلات والممرضات: تاريخ النساء المداويات

المقدمة

المداواة والمشافاة هي سيرورة (عملية مستمرة)، وبحسب ما تخبرني ذاكرتي فقد كانت النساء من حولي وفي أماكن أخرى بعيدة، و لفترة طويلة من الزمن، تمارسن هذه العملية وكلهن ثقة واطمئنان بأن السيرورات الصحيحة والمتأنية والمحصنة وحدها هي التي يمكنها أن تثمر النتائج المرغوبة. المشافاة هي عملية معالجة ومداواة. والعلاجات لا تحدث هكذا من دون سبب. الرعاية هي السيرورة التي تؤمن النمو. والطبخ هو العملية التي تنتج لنا ما نأكله. والإصغاء هو العملية التي تجعل المرء يشعر بأنه مستمع إليه. والتساؤل هو العملية التي تجعل المرء يشعر أنه مُتفهم.. والتنظيف والعشعشة هما السيرورات التي تؤمن المنزل والبيئة الصالحة. تلك هي "بعض" النماذج من عملياتنا. يسمونها "الأعمال المؤنثة"، ونحن نسميها أعمال "البقاءعلى قيد الحياة"، أي ذلك النوع من الأعمال التي يتوقف وجودنا كله عليها، والتي لا تحظى إلا بقليل من الشكر ولا يراها سوى القليل من الناس وبالكاد يُعوّض على الوقت والجهود المبذولة لتحقيقها. العمل المؤنث قد يمكن تعريفه ببساطة على أنه العمل الذي لا يقدره أحد، وهو مضمون ومؤكد ومتوقع ومتاح مقدمًا بكل الأحوال. إنه حيث تتوقع من البنات غير المتزوجات، " العوانس"، والأرامل، أن يمضين حياتهن وهن يهتممن بالعائلة، بمريضها وعجوزها. ويستمر الآباء، أو صورة الأب، بوعظ بناتهم بأنهم سعداء جدًا لوجود بنات في العائلة، لأنهم حين يصيرون في أرذل العمر لن يجدوا غير البنت لتكون جنبهم ومعهم؛ في حين أن الأبناء لا يُعوّل عليهم (أي بالأحرى أنهم غير مجبرين على ذلك). إنه العمل حيث العاملات المنزليات المهاجرات والمستغلات، يمضين شبابهن وكهولتهن في رعاية عائلة هي ليست أصلًا عائلتهن، وبعيدًا جدًا عن أهلهن وأقاربهن.

قرأت أول مرة هذه النظرة الجندرية إلى عملية المداواة والمعالجة في كتيب بربارة أيريريش و ديردري إنغليش "الساحرات والقابلات والممرضات: تاريخ النساء المداويات"...ولكنها لم تكن المرة الأولى التي شاهدتها فيها أو اختبرتها. فالتعليم الرسمي للممرضات يقوم على المنطق الطبي نفسه الذي يحمله التعليم الرسمي للأطباء الممارسين، والحال أن هذه المعرفة العلمية تُقدّم ملفوفة في غلاف زهري جميل اسمه "خطة التمريض الرعائية"- وهي تسمية تختزل كل العلم الطبي الدقيق الكامن خلف مهنة التمريض، في مجرد كونه شعورًا طبيعيًا تمتلكه كل النساء (يا للسخرية). وليس من قبيل الصدفة أن هذه المصطلحات الجندرية تستخدم لوصف عملنا ، وأن عمل الممرضات هو عمل غَيْر مُقَدَّر حَقّ تَقْدِيره، ومستغَّل،  تمامًا مثل العمل المنزلي. فبعد سنوات من دراسة التمريض تجد الممرضة نفسها وقد اختصرت إلى مجرد كونها "ملاك الرحمة" أو "نصف دكتور"، واللقب الثاني يطلق عليها بكل جدية كما لو أنه قمة جبل كل الإطراءات والمدائح. وأنا لم أستطع أن أفهم كيف أن تقدير قيمة شخص ما على أنه نصف شخص آخر يُعتبر مديحًا وإطراءً.

كنا نقرأ بصوت عال وبوضوح صارخ كيف تتم جندرة عملية المداواة والمعالجة في برامج التمريض التي كنا ندرسها في كليات التمريض، وفي سياسات التمريض المكتوبة، وفي ممارستها في العمل، وفي العلاقات المهنية والاجتماعية في المستشفيات. فبحسب هذه السياسات يقوم الأطباء بالمعالجة وتقوم الممرضات بالمساعدة. ثم صار الوضع أن الدكاترة يعالجون ولكن الممرضات يداوين ويسهرن على المريض لاستعادة صحته. ثم مع تصاعد وتائر دورة العمل، والاستياء المتعاظم من العمل، بقي أن الدكاترة هم من يعالج ولكن معالجتهم الطبية لم تكن ممكنة من دون مساعدة الممرضات لهم في المداواة. شكرًا لكن أيتها الممرضات. عيد ممرضات سعيد. ولكن ليست هذه هي الحكاية. الحكاية هي أن الممرضات كن هن من يعالج عبر سيرورة المداواة والمشافاة. ولكن كان يتم بشكل دائم إبقاء الممرضات خارج أطر المعرفة الطبية الواسعة، بسبب عدم قدرتهن على تحمل كلفة الوقت أو مدة التعليم الرسمي المتواصل. ذلك أن مؤسسات التعليم الرسمي التي جعلت من الرعاية الصحية مهنة احترافية، تشتغل بطريقة تجعل أصحاب الثروة والمال هم وحدهم من يملك الوقت الكافي والفائض للدراسة والتعلم لسنوات، من دون أن يحملوا عبء تقدمة العمل المنزلي لعائلتهم الأساسي للبقاء على قيد الحياة  وهو العمل المسمى بالعمل "المؤنث".

لقد قمنا بترجمة هذا النص الأساس على الرغم من معرفتنا بأن سياقه هو سياق تاريخي متمركز حول الذات الأورو-أميركية. ذلك أن نظم الرعاية الصحية الخاصة بمجتمعاتنا قد اعتمدت وطبقت مخرجات تلك السياقات التاريخية الغربية. وهذه المخرجات تتمثل في تكوين طبقي وجنسوي لمهنة العاملين والعاملات في الرعاية الصحية ،  وقالب رأسمالي سكبت فيه مندرجات الرعاية الصحية وشروطها. وهذه العمليات كانت عبارة عن إحراق للساحرات ، وتهميش للنساء المداويات، والحد من حجم ومدى ممارسة القابلات القانونيات والممرضات، وإقفال المستشفيات المخصصة للفقراء والملوّنين (غير البيض)، ورسم ومأسسة مُتَطَلّبَات ومُقْتَضَيات الحد الأدنى اللازم لدخول التعليم الرسمي في كليات الطب، بما يُخرج فعليًا النساء، والملوّنين والفقراء أبناء الطبقات الدنيا. وكما ستقرأن في هذا الكتيب فإن تحويل الطب إلى مهنة احترافية أدخل معايير جديدة في الممارسة الطبية تمثلت في زيادة في الرُسُوم الأكاديمية المفروضة، وفي عدد السنوات المطلوبة لانجاز متطلبات التعليم الرسمي، وهي أمور صُنعت خصيصًا لتلائم النخبة من الذين ينطبق عليهم هذا التوجه من النواحي المالية والعنصرية والجندرية، وبالتالي فقد بنيت الإمبراطورية الطبية التي نعرفها اليوم على قمة هرم هذا التحوّل.

لقد تحققت انجازات كثيرة وتقدم الطب كثيرًا منذ جرت مأسسة التعليم الطبي الرسمي ومأسسة ممارسته. والكثير من الانجازات التي تحققت لم تكن ممكنة لولا استغلال تحديدًا أجساد أولئك اللواتي جرى استبعادهن منذ البداية عن ممارسة الطب.  فالتجارب الطبية اللاأخلاقية كانت تتم أصلًا على أجساد النساء، والملونين، والعبيد، والفقراء، وأجساد المختلفين جنسيًا (الكويرية والمثلية)، وأبناء البلد الأصليين، والمهاجرين، والأيتام، وأسرى الحرب... وكل هؤلاء كانوا يتقاطعون ، دون أن يستبعدوا بعضهم البعض بالضرورة.

لقد بنينا مدراسنا الطبية والتمريضية، ومقررا ت مناهجنا وبرامجنا الدراسية، ونظم الرعاية الطبية في بلداننا، لكي نقلد ونمجد ونتبع خطى الانجازات المتحققة في أوروبا والولايات المتحدة الأميركية.  ولكن ماذا لو عرفنا أن تواريخ نظم إيتاء الرعاية الصحية ونظم التعليم تلك قامت على تواريخ من القمع والاستبعاد؟ هل كنا سنفاجأ أن تكون غالبية ممارسي مهنة الطب تأتي من عالم المال والعائلات ذات النفوذ، أو أن يكونوا من الرجال؟ هل كنا سنفاجأ أن نعرف أن أيقونات مهنة التمريض، السيدة حاملة القنديل (فلورانس نايتينغايل)على سبيل المثال، يأتين من عائلات أرستقراطية، وأنهن حاربن أصلًا كي يبقى هذا العمل غير مهني لأنه هو العمل "الطبيعي" للنساء إذ هو امتداد لعملهن في المنزل، وهو لا يحتاج إلى أن يكون مهنة احترافية أو ينال تعويضًا ماديًا؟ ألا يتوجب علينا حينذاك أن نسأل أنفسنا لماذا يُتوقع لنا أن نقبل هذه المخرجات من دون أن نفهم السياقات السياسية التي نبعت منها وصدرت عنها؟

إن قراءة هذا الكتيب تجعلنا نفهم لماذا هذا "الواقع" هو على ما هو عليه. يوضح الكتيب الهجمة المتعمدة التي حصلت علىالداويات غير الرسميات ، وهو إضافة عائد إلى رصيد الصحة، وطريق معبّد للروافد الحاضرة والروافد القادمة من أجل بناء قوة أكبر وشرعية أمتن.

إن الصحة والمداواة هي مداخل قوية لسياسات الجسد (بالمعنى الذي كتبه فوكو)، وسياسات الجندر، وسياسات الجنسانية، وسياسات العمل، ولصراعات الطبقة، والعرق، والهجرة. وعلينا أن نعترف أن التنشئة الإجتماعية الجندرية، والمسّخرة لصالح التفوق الذكوري، والتي تستفيد من استتباع النساء، هي حصن ومتراس داخل مجتمعنا وهي حاضرة في الطريقة التي نقوم فيها بتدريس المداواة أكان ذلك في الطب أو التمريض أو القبالة القانونية، وفي الطريقة التي نمارسها فيها. إن علم الصحة ليس غير منحاز أو حياديًا بالمطلق، كما يقولون لنا ويلقوننا؛ فثمة جراحات "تصحيحية" للمولودين الثنائي الجنس (الانترسكس)، وثمة تَنْظيرٌ داخِلِيٌّ استكشافي بطريقة الفم لمعرفة السبب الغيبي للغثيان عند المرأة الحامل غير المتزوجة، وثمة رفض لإجراء فحوص مهبلية للمرأة غير المتزوجة خوفاً من تمزيق غشاء البكارة لديها، وثمة رفض للتعقيم الاختياري للمرأة العاقر، صرف النظر عن شكاوى النساء بآلام الطمث أو بالعوارض الجانبية  لموانِع الحَمْلِ الهُرْمونِيَّة معتبرين تلك النساء "شديدة الحساسية" أو "هستيرية"، وثمة علاج تنفيري بالصدمة الكهربية لمثليي الجنس، وثمة فحوصات شرجية وفحوصات عذرية للمثليين وللنساء، وتحديد الوضعية، والواسطة، والحرارة، والزمان والمكان الذي نَلِدْ فيه... أجساد من هي تلك الأجساد إذن؟

إن هذا الكتيب يلقي بعض الضوء على بروز ذلك العلم الطبي "غير المنحاز" وعما فعله بالنساء المداويات. ويبقى أن أمامنا عمل كثير نقوم به. لا يمكننا الرجوع إلى الوراء، إلى حيث بدأت النساء المداويات، ولعلنا لن نستطيع جبر الضرر والتعويض عن كل ذلك التهميش والإقصاء الذي كنا ضحية له. ولكننا نستطيع أن نتقدم إلى الأمام وأن نتحدى تلك البنى الأبوية البطريركية الطبقية والعنصرية التي تملي علينا كيف يمارس الطب، وتحدد لنا من هو المؤهل لممارسة الطب، ومن ليس كذلك. إن تحدينا هذا النظام المسيطر من داخل القطاع الطبي علينا أن نتوجه إلى القيود التي تحد من حقل ممارسة الممرضات والقابلات القانونيات، وأن نستثمر في المهارات الموجودة وفي تعليم المداويات غير الرسميات ، مثل القابلات التقليديات. علينا التواصل مع العاملات وأن نربطهن بعضهن ببعض، من المنزل بما هو مكان عمل لعمل غير مدفوع الأجر تمامًا، إلى مكان العمل كمكان لعمل رخيص؛ غَيْر مُقَدَّر حَقّ تَقْدِيره. علينا أن نتحدى كل المعوقات التي تواجهها المرأة العاملة، من التمييز والتحرش الجنسي في العمل، إلى القيود والتضييقات في الأجر وفي الفرص، وفي معاقبتهن في إجازة الأمومة. على النساء العاملات، أكن يعملن بأجر أو من غير أجر، أن ينخرطن ضمن حركة اجتماعية وأن يقدن الطريق إلى العدالة الجندرية . والحال أن هذا الأمر هو بحد ذاته سيرورة طويلة الأمد ما زلنا في بداياتها. إن الحركات النسوية منخرطة في عمليات لا نريد لها أن تسقط في وهم السلطة. نحن على العكس من ذلك نقول إننا ننخرط في سيرورة تقود إلى العدالة. لا نريد أن نختلس عدالتنا التي هي حقنا. نريد أن نمتلكها.


-----
المقدمة لهذه النسخة المترجمة بقلم رلى ياسمين
ترجمة المقدمة: سعود المولى
غلاف الكتيِّب والصورة المصغرة: الفنانة ميريلا سلامة
-----