Unrealisdick

خواطر لور عن خلوة سياسة الجنسانية

كنتُ مرتابًا في بادئ الأمر. شعور الريبة يلازمني، لا جديد.

الطريق إلى النزل كان هادئا. إنّها المرّة الأولى التي أجد فيها سببا لمغادرة بيروت، فأنا أميل إلى الروتين. قضاء ليليتين كاملتين مع إثني عشر غريبا وبعض المنظّمين بدا كالمغامرة، خاصّة أنّ المغامرة تدور في منطقة لبنانيّة لم أزرها من قبل.

وصل كل منّا في سيارته عند الساعة التاسعة مساءً. كنّا مرهقين، جائعين، ونشعر بالبرد. لفتني نزل "Auberge Beity" بجمال تصميمه المتواضع. طُلب منّي اختيار غرفة في الطابق الأخير، فاخترت غرفة إلى اليمين في نهاية الرواق الضيّق. كانت الغرفة الوحيدة  المتبقية التي لم يختارها أحد. لم أكن مرتاحا تماما، لكنّ وجودي وحيدا في غرفة النوم بعث الطمأنينة في نفسي.

قُدّم العشاء. امتلأت السفرة بأطباق منزلية، كالأرز المتبّل مع اللحم والسلطة والبيتزا. جلست إلى المائدة، ورحتُ أتناول الطعام وأسترق النظر إلى من حولي. شكّلوا في جلستهم مجموعات صغيرة ثلاثيّة أو رباعيّة الأفراد، وتبادلوا الأحاديث وضحكوا في ما بينهم. أما أنا فكنت راضٍ لوجود حجة لأمتنع عن الكلام.

لكن ذلك الوضع لم يدم طويلًا. من المستحيل أن تبقى منعزلاً ضمن مجموعة مغلقة كتلك، مهما كنت تعتقد أنّك لستَ اجتماعيًّا. عندما اقتربت منّي إحدى زميلاتي في النزل وأخبرتني أنّها علمت أنّي "الشخص المناسب لمشاركة المشروب"، عرفت فورا أنّي تجردّت من سلاحي، وأدركت أنّني تعرّفت حقّا إلى صديقة جديدة.

شاهدنا فيلما سويّا، ثمّ عدنا سريعا إلى غرفنا. ما إن فتحت الباب، وجدت أنّ إحداهنّ ستشاركني الغرفة. وجدت أنني لم أمانع.

المغامرة الحقيقيّة حصلت في اليوم التالي. توجّه المشاركون إلى غرفة المؤتمرات وبدوا متعبين، حملوا كتيّبات اللقاء - "الجنس والمجتمع"- وحملوا أكواب القهوة وعيونهم نعسة. استهلت الجلسة بتعريف كلّ مشترك بنفسه، واتفقنا على أسلوب المخاطبة الذي نفضّله. طلبتُ أن يخاطبوني بصيغة المذكّر فرحّبوا بذلك، وكنتُ (على حد علمي، طبعا) المتحوّل الجندري الوحيد بينهم. أراحني تقبّلهم  لطلبي واطمأنيت لوجودي مع مجموعة تفهمني أو، على الأقل، تحاول أن تفهمني.

بعض المقالات التي تناولها الكتيّب أثارت نقاشات مهمّة حول منطقة الشرق الأوسط وجنوب إفريقيا، منها عدم الظهور الكافي للمثليّات في المجتمع، والتركيب الاجتماعي للهويّة المثليّة، وارتباط التمييز الجندريّ بالنظام الأبويّ، وهوس المجتمع بترسيخ الأدوار الجندريّة التقليديّة، وتثبيت الغيريّة الجنسيّة كالحالة الطبيعية في الهرم الجنسيّ، وامتيازات من لا يعانون من أيّ إعاقات في السياق الجنسيّ، واضطهاد كويري البشرة السمراء، وإدخال مصطلح "cisgender" أو ما يعرف بالأشخاص المنسجمين مع جنسهم البيولوجيّ كتعبير عن موقع امتياز في المجتمع… كلّها مواضيع ناقشناها خلال حلقات اللقاء وبين استراحات القهوة. تعرّفت إلى زميلاتي عن كثب من خلال مقاربتهنّ للمواضيع المطروحة، ولم يقتصر ذلك على معرفة ألوانهنّ المفضلة في حلقة التعارف.

بعد انتهائنا من العشاء الشهيّ، تحلّقنا في إحدى الغرف وتحاورنا عن شؤون اللاجئين السوريّين والفلسطينيّين. لم أشارك كثيرًا في ذلك النقاش، كوني من خلفيّة تتمتّع ببعض الامتيازات التي تجنّبني الصدام مع الأمور السياسيّة. ذكّرني الحوار بين الزميلات بمقولة قرأتها منذ فترة وجيزة: "قد لا تفكّر بالسياسة، لكنّ السياسة تفكّر بك". وقبل انتهاء الحلقة، بادرت إحدى المنظّمات في تقسيمنا إلى فرق من ثلاثة أو أربعة أشخاص كي نشارك في تمرين عن الامتيازات في المجتمع، فصنّفنا الأشخاص تبعا لامتيازاتهم الاجتماعيّة والسياسيّة.

أخيرًا وبعد يوم طويل ومرهق، اجتمعنا متلحّفين لنشاهد الفيلم الثاني والأخير في هذا اللقاء، وهو فيلم Boys Don't Cry (1999) "الفتيان لا يبكون". بكيت. بكيت كثيرًا. لم أرَ الوجوه من حولي من شدّة الظلام، ولكنّ كلّما صرخت إحداهنّ أو أطلقت العنان لشتيمة بكلّ ما أوتيَت من غضب، أشعرني ذلك  - لأوّل مرّة من زمان - أنّي لست في غربة بين مجموعة من الناس. أظنّ أنّ أحدا منّا لم يتوقّع أن نتفاعل وننفعل إلى هذا الحدّ. بعد انتهاء الفيلم، أضيئت الأنوار، فهرع البعض مترنّحين نحو الشرفة كي يلتقطوا أنفاسهم. افترشنا الشرفة شخصًا تلو الآخر إلى أن تحوّلت سهرتنا إلى احتفال يستضيف الشوكولاتة ومشروب الياغر مايستر والحكايات التي لا تنتهي. لن أنسى تلك الليلة؛ جلوسنا في البرد القارص، طبطبتنا لبعضنا الآخر وبكاؤنا وضحكاتنا حتى ساعات الفجر الأولى.

لم أكن على صواب، ما توقّعته أن يكون لقاءً أكاديميّا بحتا، كان بالفعل تجربة تعليميّة فريدة. الحاجز الذي كنتُ قد بنيته بيني وبين الآخرين سرعان ما هدم في نهاية اليوم التالي. رافقني الحزن عند اقتراب موعد الرحيل. إن سنحت لك الفرصة أن تقضي يومين في الجبل مع إثني عشر غريبًا، لا تتردّد لخوض التجربة، فقد ينتهي بك الأمر محاطًا بوجوديّين يذكّرونك أنّ سذاجة الحياة جميلة بقدر ما هي مقيتة. قد تصطدم بمراقِبة صامتة تخبّئ الكثير من الأسئلة، أو قد تصادف وسيطة نقاش ماهرة إلى حدٍّ يجعلك تعتقد أنّ التواصل الاجتماعيّ الحيّ سهل، فتتعلم ألّا تحكم من خلال المظاهر. قابلت فنّانة تستطيع تحويل أبغض الأشياء إلى أروعها، وتعرّفت إلى إنسانة عطوفة تدركُ مشاعري قبل أن أدركها بنفسي.

لو خيّرتُ لإعادة التجربة، لربّما عدتُ إلى حالة الشكّ الأولى. لكنّي أعلم الآن أنّ شعور الريبة الذي يلازمني ليس عائقًا، طالما أنّ هناك مجتمعًا صغيرًا سيحتضنني كما أنا..

---------------------

Written by Unrealisdick